افتتاح الدورة 18 لمهرجان «أفلام حقوق الانسان»: «طعم الإسمنت» لزياد كلثوم.. بين وجيعة الغربة ووجيعة الحرب ...

ألم يخلّف أملا هدم وراءه بناء، حرب تليها اعادة تعمير، فحضارة تهدّم وتمحى بناياتها،

صوت ازيز الحديد يعاكس صوت الرصاص ، هسيس الموج يغالب تأوهات العمال ووجيعتهم، تعب العمل يغلب تعب الغربة، كلمات قليلة امام وجيعة كبيرة هي وجيعة الوطن الضائع ووجيعة الغربة ووجيعة التعب المضني ووجيعة رائحة الاسمنت «الي بتاكل الروح موبس الجلد» ، وجيعة وطن يدمره النظام ليبنيه ابناءه في مخيلاتهم هكذا كان اللقاء الاول في قاعة الريو مع طعم الاسمنت» لزياد كلثوم.
فيلم بطعم الحنظل و رائحة الغربة، فيلم قليل الكلمات كثير الصور، حملت فيه الكاميرا صورا من الدمار في سوريا وقبالتها صور التعمير في لبنان، بين الموت والحياة تأرجحت كاميرا زياد كلثوم، فيلم يلخص العلاقة بين الانسان والحجر، بالكاميرا كتب زياد كلثوم ما عجزت عنه آلاف الكلمات ولخص وجيعة ليحقق ثورة في السينما الوثائقية لانه دائم البحث عن التجديد في الصورة وطريقة التناول.

طعم الاسمنت مرّ اما الغربة فطعمها حنظل
ازيز الحديد يصم الآذان صوت موج البحر الهادر، اصوات الالات الكهربائية، صوت المصعد الكبير، اصوات العمارة جميعها اتحدت وتماهت لتصنع صوت العمارة اثناء البناء، اصوات اولية كانت المادة الخام لتثير رغبة زياد كلثوم ومدير تصويره طلال خوري لانجاز مادة سينمائية وثائقية جد مختلفة تحصلت على العديد من الجوائز في المانيا وسويسرا ودبي، مادة وثائقية اسمها «طعم الاسمنت» حد الشعور انك تتذوقها فعلا، لحظات تعيش معها معاناة العامل تشعر بثقل حمل الغربة وانين الكادحين تقاسمهم رغيفهم وحلمهم وهم تحت الارض اين يسكنون اثناء العمل.

صورة كبيرة للبحر، وكأنه عنوان الامل في الفيلم، تتقلص الصورة تدريجيا لتركز أكثر على نظرات عامل أسمر البشرة بفعل حرارة الشمس تصاحب الكاميرا نظراته لانه ينظر الى الهناك الى «البنايات المهدمة ويستحضر صوت الدمار هناك في وطنه الذي تركه ليعمّر بيروت ويعيد أعمار ما خلّفته الحرب الاهلية آملا في أن يعمّر الهناك فصوت يقول «بس تبلّش الحرب، المعمرجية بروحوا على بلد تاني، وبينطروا الحرب ببلدهم لتخلص، ويرجعوا يعمروه»، هكذا يقول عامل البناء بصوت ولكنة موجعة تدفعك للسؤال عن قساوة الاحلام الضائعة كما حبيبات الاسمنت بين يديه.

يتواصل صعود العامل ومعه اخرين الى الاعلى ليشرف على لبنان من فوق وتبدو المدينة جد صغيرة وكأنه اشارة الى علوية الأحلام قبالتهم البحر لموجه صوت مضطرب اضطراب نفوسهم، هم اعلى من المدينة هكذا يبدو، ولكن الحقيقة غير ذلك «كنا نظن اننا 12ساعة فوق لبنان، و12ساعة تحتها ولكن لبنان فوقنا دائما» والمعنى ان العمال كانوا يعتقدون انهم يقضون 12ساعة العمل يشرفون على المدينة من العلو الشاهق اما ساعات النوم فيكونون في جوف المدينة لانهم يقطنون في القبو تحت الارض ولكن ولانهم سوريون ويمنعون من التجول بعد السابعة فالمدينة تجثم فوقهم نهارا بالعمل المرهق وليلا بصمتها ومبانيها.

الكثير من المتناقضات بني عليها فيلم طعم الاسمنت ، احداث الفيلم تدور في لبنان هنا عمّال سوريون يبنون لبنان التي دمرتها الحرب الاهلية اما الروح فهناك في سوريا اين تدمّر الدبابات المباني والعمارة، الهنا يبنى والهناك يدمّر، ضجيج وازيز الحديد يقابله صمت العملة ولحظات من التفكير الطويل.

يعمّرون الهنا والفكر هناك
انتهت الحرب في لبنان، بينما انطلقت في سوريا، ترك السوريون وطنهم تحت القصف وهبوا الى لبنان لإعادة تعمير ما خلفته حرب سابقة، هم هناك تحت القصف الحقيقي و هنا تحت قسوة النظام اللبناني في تعامله مع اللاجئين السوريين، الممنوعين من التجول في المدينة او مغادرة فضاء العمل فهم في سجن من حجارة وليس من حديد سجن يتمتعون فيه بحرية النظر الى المدينة من فوق اثناء ساعات العمل ويتمتعون بحقهم في طبخ ابريق من الشاي واستعمال هواتفهم الجوالة لمشاهدة صور الدمار، سجن يبنونه بانفسهم ويعمرونه بتعبهم ليكرمون اخر اليوم بوجبة «خبز وسردين» التي تضخمها الكاميرا وكانها اشارة الى جوع حقيقي الى كلّ شيء.

في «طعم الاسمنت» الكلمات قليلة وحدها الصورة من تعبر عن الفيلم و مايعيشه العمال، الكاميرا تنقل المتفرج تدريجيا ليكتشف أغوار المكان وشعور العاملين، الكاميرا تنقل يومهم وليلهم «كل الايام هنا متشابهة» كما يقول الفيلم.

هم عمّال، ارقام دون أسماء اعداد لكل مجموعة عمل معيّن، احدهم سينقل الجمهور عبر الشاشة الى داخله الى اعماق نفسه ويبثهم وجيعته عوضا عن ألاف السوريين، هو «سوري وجد نفسه تحت الركام، سقط البيت ومعه رائحة الاسمنت التي عاش معها طفولته، ليجد نفسه في لبنان في حفرة اخرى اوسع قليلا من الحفرة السابقة ورائحة الركام والاسمنت اشد قوة وقسوة»، رائحة الاسمنت هي الخيط الرابط بين ماضي العامل وحاضره، لقد كان الماضي البعيد كانت عنوانا لسعادته بلقاء والده العائد من لبنان، ثم اصبحت كابوسا بعد ان سقط عليه بيتهم في سوريا هرب من رائحة الاسمنت والقصف فوجدها في لبنان اشد تأثيرا رائحة وكأنها قدره ، رائحة الاسمنت تلك كانت الخيط الفاصل بين ماضي لبنان وحاضر سوريا بين البناء والهدم بين الماضي والحاضر وبين لبنان قبل الحرب وسوريا بعدها وحدها رائحة الاسمنت هي الباقية.

الكاميرا تنقل صورا من سوريا وأخرى في لبنان، في لبنان الدبابة مكانها تحت المياه استقرت هناك بعد سنوات الحرب اما في سوريا فالدبابة فوق الارض لازالت تدمر كل ما يقابل صواريخها، بين التهديم والبناء تدور احداث الفيلم، بين الموت والحياة بين سوريا ولبنان تحمل كاميرا زياد كلثوم الكثير من المعاناة، معاناة ربما خلفها مسحة امل ففي امتداد البحر سمة امل وفي الطرقات الطويلة والعلو الشاهق وتلك الرغبة النشيطة والحماس عند العمال ربما يكونون ميزة أمل في العامل السوري وقدرته على إعمار بلده متى توقفت الحرب.

حضر الفيلم وغاب المخرج
حسب البرنامج الاولي لمهرجان «فيلم حقوق الانسان» كان سيحضر المخرج السوري زياد كلثوم حفل الافتتاح في اللقاء الحواري المزمع عقده صبيحة أمس بقاعة الريو، وفي الافتتاح أشار سليم حداد مدير المهرجان انهم حجزوا الفندق وتذاكر الطائرة ولكنهم صدموا من الموقف السلبي لسفارة تونس بألمانيا التي رفضت «فيزا» زياد كلثوم، إنهم عن حقوق الانسان يتحدثون فهل هناك أشد ظلما من حرمان مخرج من حضور عرض فيلمه؟ هكذا تساءل جمهور قاعة الريو؟.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115