في عرض خاص لتكريم الراحل الطيب الوحيشي: «همس الماء»... ما لـم يقله الكلام عن الحياة!

«همس الماء» ليس مجرّد فيلم تونسي حديث التصوير والصدور بل هو آخر الحكايات ومنتهى الأمنيات في حياة المخرج الطيّب الوحيشي.

بعد أن استمات في الدفاع عن البقاء في جسد عليل فقد الحركة والقوّة، قاوم «الوحيشي» الموت بعقل حرّ وفكر مبدع مبرهنا على ذلك بإخراج أفلام ناجحة ذات بصمة خاصة به وحده... فما الذي أراد أن يهمس لنا به الطيب الوحيشي قبل رحيله في وصيّته السينمائية الأخيرة «همس الماء»؟
شاء الراحل الطيّب الوحيشي بأن يعرض فيلم «همس الماء» يوم 2 مارس 2018، فكان له ذلك وإن كان غائبا! فالمنيّة لم تمهله من العمر بضع أيام أخرى ليقدّم بنفسه فيلمه الجديد إلى الجمهور. فكانت سهرة الجمعة 2 مارس الجاري بقاعة الكوليزي تكريما من طرف كلّ من «تانيت للإنتاج» و«سيني الفن السابع» لروح الطيّب الوحيشي الذي غادرنا يوم 21 فيفري 2018.

حياة على هامش قصة الأمس
في مدينة سيدي بوسعيد الفاتنة بزرقتها وبياضها والحالمة في امتداد بحرها وأفقها...اختار المخرج الطيب الوحيشي أن ينتقل بكاميراه في تتبّع رحلة «أنس» بين ماض مثقل بالذكرى الموجعة وحاضر مضطرب تسكنه الحيرة القلقة ...
في «همس الماء» يسرد المخرج حكاية «أنس» مخرج أوبرا في الستّين من العمر يعود من «المنفى» بعد الثورة ليختار مدينة سيدي بوسعيد سكنا وقصر «النجمة الزهراء» مسرحا لتمارين أوبرا «ديدو وآينياس» لهنري برسل التي حلم بإخراجها منذ أكثر من عشرين سنة مع حبيبته «عليسة». وبالرغم من تعامله في إحياء حلمه القديم مع المغنيّة المحترفة «لورا»، فإن «أنس» لم ينجح في التخلص من سيطرة صورة المغنيّة الأولى «عليسة» وطيفها وصوتها على ذاكرته وإحساسه ومسرحه...
وككلّ أفلام الطيب الوحيشي التي تتميّز بذائقة جمالية نوعية ومغايرة، فإن البطل يظهر في صورة الذات المُعذّبة في حيرتها الفلسفية التائهة في أسئلتها الوجودية...

عذابات الذات بين الحاضر والماضي
كما يرافق طيف «عليسة» مخرج الأوبرا «أنس» في حلّه وترحاله، فإن تهمة الخيانة تلاحقه في كلّ حركاته وسكناته. والكلّ يوّجه له أصابع الاتهام بالوشاية بأسماء رفاقه في النضال لدى النظام. ولم يشفع له دفاعه عن نفسه في كل مرّة وتأكيده بأنه رغم التعذيب لم يبع القضية في درء التهمة عنه.
بسبب هذا الماضي، لم تكن الكوابيس عن ذكريات التعذيب بالسجن هي وحدها التي تقض مضجع «أنس» بل كان رفض وتهديد أهل مدينته يقلق عيشه...
وعن قضية البطل الرئيسية تتفرّع مجموعة من القضايا أخرى. لعل من أهمّها هشاشة وضعية الفنان ومشقته في الحصول على الدعم، وفقدان الأمل لدى الشباب مما يجعله يدمن المخدرات أو يجتاز الحدود خلسة أو يرتمي في فخ الإرهاب ...

ليس فيلم أوبرا بل عن الأوبرا
في خضم ذكريات صاخبة عن الماضي ويوميات مرهقة في الحاضر، كانت تمارين الأوبرا تتواصل في نسق متواتر بعيدا عن حالة الاضطراب التي يعيشها مخرج العرض «أنس»... وكأننا بالموسيقى مساحة إضافية من الحياة. وإن كانت أغلب مشاهد فيلم «همس الماء» تنقل استعداد فريق الحفل من مغنين وراقصات لعرض الأوبرا، فقد أكدّ صاحبه الطيب الوحيشي لدى تصوير الفيلم بأنه فيلمه «ليس فيلم أوبرا ولكن هو فيلم عن الأوبرا».

ويبرّر المخرج الطيب الوحيشي هذا الخيار بالقول: «اخترت «ديدون وآيني» لهنري بورسال لأنها تنتمي إلينا نوع ما. فديدون ليست سوى عليسة القرطاجنية، وبأن الموسيقى أحب الفنون إلى قلبي وهي أجمل ما في الشعر فقد كانت حاضرة في كل أفلامي بمختلف أنماطها من الأغاني الشعبية والوترية التونسية للهادي القلال ، صالح المهدي، إلى أبرز مطربي الجاز والإيقاع الأفريقي، الموسيقى الكلاسيكية وأخيرا الأوبرا. والموسيقى بالنسبة لي لا تصنع فيلما فالصور تقبل أو ترفض لكني أعتقد أني حجزت دوما مساحة للموسيقى في أفلامي باعتبارها أحد عناصر المهمة في تحقيق الانسجام الداخلي للفيلم».
على مشهد تمرين لعرض الأوبرا، كان استهلال فيلم «همس الماء» وفي حركة دائرية انتهى الفيلم كذلك بمشهد عرض الأوبرا وقد اكتملت ملامحه وصافح الجمهور. أما مخرج الحفل «أنس» فقد غاب في ظلام الليل على متن قارب يهدهده الموج، ليبقى السؤال معلّقا في الأذهان: ما الذي همس به الماء إلى الفنان «أنس» ومن ورائه المخرج الطيب الوحيشي في فيلم «همس الماء».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115