افتتاح ملتقى أدب الواحة والصحراء: «توسرتا» تناديك لاكتشاف خبايا «فينيكس» فهلّا لبّيت النداء؟

توزر - «المغرب»: مفيدة خليل
هنا الواحة، هنا الهدوء والصمت والسكينة والحلم، هنا فضاء متجدد للإلهام، هنا الخلاص والانعتاق،

هنا الخصب والنماء، هنا التوغل في أعماق الأرض والشموخ في علياء السماء كما كتب ابن المدينة الفيلسوف والاديب الشادلي الساكر، هنا توزر هنا ولد ابن شباط وعبد الله السقراطي و ابن الفضل النحوي وأبو القاسم الشابي شاعر الانسانية القائل «زر توزر إذا رمت رؤية الجنة».
هنا تكتبُ عنوة، وتبدعُ عنوة وتحلم أيضا، هنا «توسرتا» الفرعونية و «توزوروس»الرومانية و «كاشيليا» البيزنطية فالقصبة العربية ثم توزر ارض الجريد والإبداع والأمل هنا انطلقت فعاليات مولود ثقافي يهتم بأدب الواحة والصحراء وفي اليوم الأول كان اللقاء تاريخي وأدبي، لقاء نفض الغبار عن تاريخ «فينيكس» وقدم لزوار توزر بعضا من السر الغامض بين ارض الجريد والجريدي.

متحف النخلة: شامخة هي سيدة الارض
صمت يشع في المكان، اشعّة الشمس الخجولة استيقظت لهنيهة متمهلة وكأنها تغري ضيوف الواحة بيوم ربيعي مميز، منذ يومين خرج الجميع إلى ربوة الشابي للاحتفال بالربيع و الأمس كان اللقاء احتفاليا في فضاء هو الخاص في المدينة.
المكان مدينة توزر، الزمان التاسعة صباحا من يوم ربيعي هو الأول في الفصل، الحدث زيارة متحف النخلة «عدن بالم» بمناسبة افتتاح أشغال ملتقى أدب الواحة والصحراء الذي تنظمه الجمعية التونسية للتنشيط الثقافي والسياحي.

الانطلاق من وسط المدينة، لافتة كتب عليها «اقامة الوادي» وبعد بضعة امتار تجد نفسك أمام الواحة وابن شباط يحييك مرحبا بزوار المكان، دع ابن شباط ينهض رويدا ويتأمل واحته الغنّاء فلازالت الرحلة ولازالت الأسرار، إلى يسار تمثال ابن شباط طريق فلاحية، إلى يمينك النخيل شامخا والى يسارك بعض المنازل وجميعها من خشب الواحة، قرابة كيلومترين عن وسط المدينة يوجد متحف النخلة «عدن بالم»، متحف يقدم للضيوف رحلة افتراضية مع النخلة منذ البدء ومعها حصص لتذوق منتوجات الواحة، المرشد يطلب من الجميع الصمت والانتباه فلكل معلومة خصوصية.

منذ المدخل ستجدك نفسك بين النخيل الباسقات شامخات معتدات بأنفسهن يعانقن الامل في علاء السماء، أولى الصور تكون مجسم تقريبي للنخلة وجذورها وخصوصياتها، حديث عن النخلة الأم والنخلة الوليد وتقنيات المستعملة للتفريق بينهما تماما كما «قطع الحبل السري عند ولادة الانسان» فالنخلة كما المرأة.

في متحف النخلة، عودة الى الأسطورة، إلى اسم «فينيكس ديكتيفرا» اللاتيني الاسم الأول للنخل الذي تطور إلى «اندقال» عند الاراميين فـ «تمرة» عند اليهود ، ليصبح اليوم «الدقلة»، حسب الدراسات القديمة فالنخلة تعود الى 80 مليون عام أي إلى العصر الجيولوجي الثالث وانذاك كانت توجد في شمال فرنسا وشمال اسبانيا وتكساس وهي شجرة مكونة من خليط لثلاثة نباتات «فينيكس سلفستر» و «فينيكس ركيناتا» و«فينيكس اتلنتيكا».

منذ القديم للنخلة سحرها، هي رمز الخصوبة و هي قربان للآلهة وهي طعام علية القوم، أما في افريقية فالسعفة كانت رمزا للقرطاجيين في تلك الفترة، وللوصول إلى توزر فالنخلة قامت هي الأخرى برحلات انطلاقا من بلاد السودان، في توزر كان هناك تجمعات سكنية 3800 عام قبل الميلاد في هذه الصحراء المسماة باسم «توسارت» الأميرة الفرعونية كانت تجتمع القوافل ثم اصبحت بمثابة الحصن عند الرومان يحدها نابتوس «نفطة» وايتابوس «دقاش» وبينهما تكون توسارت، حينها احتفوا بالنخلة لأنها كانت عنوانا للخصوبة والقوة، لأنها شجرة الآلهة عند الرومان، الفينيقيون استعملوا النخلة كدليل للسلم تحديدا في الحرب البونيقية الثانية حينما أراد حنبعل المرور من مدينة «كان» لمحاربة روما طلب منه وجنوده حمل سعفة كرمز للسلام وبعد أن هزم باتت الجريدة رمزا للنصر عند الرومان وللهزيمة عند الفينيقيين ومن ثنائية النصر والهزيمة جاء شعار جائزة اوسكار لمهرجان «كان» الدولي انطلاقا من العام 1962.

تتواصل الجولة داخل المتحف الكثير من المعلومات عند تلك النخلة وخصوصياتها وعلاقتها بمحيطها، من العلم و التاريخ الى الدين فالمسيح يحتفلون بالجريدة كرمز للعودة الى القدس اما عيد السكوت عند اليهود فالجريدة النخلة تشير الى حادثة اغراق فرعون في البحر الأحمر امّا عند المسلمين فقد ذكرت النخلة العديد من المرات في القرأن لتكون النخلة في متحفها سيدة هذه الارض دون منازع.

الجريدة والجريدي قصة كما الأم ووليدها
هدوء عجيب يلف المكان، النخيل يعانق الشمس ويمتص أشعتها، صوت زقزقة العصافير، اللون البني الغامض هو ميزة الألوان هو لون التراب بعد ان روته قطرات الندى، تدرجات الأخضر ممتعة، مزيج من الالوان الطبيعية شكل فسيفساء جد ممتعة والوانها متناسقة حد التماهي والانسجام هي النخلة التي تغزل بها امرئ القيس بالقول:
وفَـرْعٍ يَـزِيْـنُ الـمَــتْـنَ أسْـوَدَ فَــاحِــمٍ
أثِــيْــثٍ كَــقِــنْــوِ الـنَّــخْـلَـةِ المُتَـعَـثْكِل 

لازالت الرحلة لاكتشاف تفاصيل النخلة متواصلة، ولازال الجميع يصغي الى المرشد دون ضجر، فتلك الشجرة لها الاف الحكايا والاسرار وربما أبناء الجريد هم الأعلم بحكاياتها، الواحة مقسمّة بشكل مربعات متوازية، يتوسطها كوخ صغير، وجوده ليس اعتباطا فهنا في الجريد ومنذ الازل داخل البستان يوجد كوخ يسمى «النوالة» أو العريش او «الزريبة» ويخصص للبستاني، منذ ان تدخله سيدعونك على كاس شاي اخضر، في العريش يمكنك ان تتناول اللاقمي المخمر «القيشم» فهنا لكل اجزاء النخلة استعمال معين، الجلسة هنا وكأنها مناجاة للروح والحبيبة فالنخلة الانثى حساسة ومرهفة كما المرأة التي قال فيها بدر شاكر السيّاب:

عيناك واحتا نخيل ساعة السحر

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر

دع النوالة للبستاني وواصل المتعة فقبالتك مشهد منقطع النظير، هواءه يبعث الانشراح في الروح و اصوات عصافيره كما موسيقى الحياة و الوانه ممتعة، هنا احدى واحات الجريد هن ينتدون «العلق» و «الكنتيشة» و«تزرزيت» و «البسر الحلو» و250 نوعا من التمور وصولا الى دقلة النور التي جاء بها الباحث في مجال النباتات سيدي يحيى التواتي من الجزائر وغرسها في توزر في إطار تجربة لتنجب تمرا اسمر اللون عذب المذاق كما تقول كتابات البشير خريف.

كل كتاب توزر تحدثوا عن الواحة وعن النخلة وسحرها، الجميع يريد ان يناضل ويموت شامخا كما النخل، هنا النخلة ليست مجرد نبتة بل كائن يحبونه حد التقديس، علاقة الجريدي بالنخلة جد غامضة واكثر قداسة احيانا من علاقة الام بوليدها، النخلة منذ الازل كانت تخصص لاستعمالات معينة والنخلة مصدر للخشب الخاص بجهة توزر فقديما تقطع النخلة ويوضع جذعها لعام او يزيد في شط الجريد ثم توضع تحت الشم وبعدها تستعمل للبناء بالخشب ولازالوا يستعملون الطريقة عينها.

النخلة هنا عنوان للحياة منها المأكل والمشرب والدواء فبحسب تحاليل انجزت للنخلة اكتشفوا انها غنية بالاملاح المعدنية والسكريات و الألياف الغذائية و الملح والحديد والصوديوم و مادة «ايسيتوسيت» وهي مادة تهدئ أعصاب المرأة بعد الام الولادة تماما كقوله تعالى في سورة مريم «كولي واشربي وقري عينا» فالنخلة هنا للماكل والمشرب و البناء والدواء، النخلة عالم يستحق البحث والدراسة، الواحة ملهمة الشعراء والعلماء، النخلة ليست شجرة عادية بل كائن غامض كلما فتحت بابا وجدت امامك الكثير من الاسئلة و البهاء، متحف النخلة «عدن بالم» يجيب عن الكثير من الاسئلة و ربما يجيب عن سر تعلق كتاب الجريد بالنخلة ولكن تبقى زيارة الواحة والاستمتاع بخصوصياتها ومحاولة معانقة علوها وشموخها تجربة تستحق المغامرة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115