فيلم الجايدة لسلمى بكار: صمود المرأة نضال من نوع آخر

باسم المرأة تحدّثت، ثارت وخلقت من هشاشة الأفكار المسبقة مرجعا للنّضال والصمود،

مهّدت طريقها نحو الحلم وشيّدت بها معالم المستقبل... عن «سلمى بكار» نتحدّث وعن فلم «الجايدة» بالخصوص نميط اللّثام لنبحر في خيال مخرجته ونفكّ شفرات رموزه.

بمركز الدّراسات المتوسطيّة والدّولية اجتمع ثلّة من الصحفيين والمخرجين والسينمائيين لتغطية عرض الفيلم والنقاش حوله.
طرح «الجايدة» تناقضات كثيرة وجمع النّقاش بدوره عدة متناقضات، إذ ينقسم الحضور إلى فريقين، فريق يشيد بكافة تفاصيل العمل ويشكر المخرجة على إعلائها من شأن المرأة بينما يعاتبها الفريق الثاني على «صنصرة» التاريخ ومحو صورة المرأة من ثناياه.

زخم من الظواهر الاجتماعية
تدور أحداث فلم «الجايدة «، خلال آخر ثمانية أشهر قبل الاستقلال التّام لتونس، حول أربع نساء في الظاهر هنّ «وجيهة الجندوبي» (بهجة) و»سهير بن عمارة»(ليلى) و»نجوى زهير» (آمال) و»سلمى محجوب» (حسينة) ولكنه أعمق من ذلك، إذ تطرح كل شخصيّة من الشخصيات النسائيّة في «الجايدة» ظاهرة مختلفة عن التي سبقتها، من تعرّضها إلى الخيانة الزوجيّة إلى حرمانها من حبيبها قسرا إلى احتقارها بسبب شهوتها الجنسّية إلى تنغيص حياتها لإنجابها أنثى بدل الذّكور إلى الجهويّات إلى التّمييز العنصري إلى العنف الأسري...
كلّ ذلك تسبّب في مجازاة هؤلاء النساء من قبل «حاكم الدريبة»  بدل حمايتهنّ من مجتمع اتفق على إذلالهنّ ونصرة الرّجل ظالما أو مظلوما ليكون مصير المرأة «العاصية لأوامر زوجها» دار جواد -في أزقة المدينة العتيقة- حيث تتلاقى خيبات النّساء وتتعمّق جراحهنّ في البداية ولكنها تندمل شيئا فشيئا بفعل الزّمن ومشاركة أوجاعهنّ.

شجاعة من رحم الألم
ورغم ما تضمّنه الفلم من أوجاع وتجارب مؤلمة عاشها الجمهور مع الممثّلين لحظة بلحظة، نظرا إلى حذق الممثلين لأدوارهم وإتّصال أحداثه بالواقع المعيش إلى حدّ الآن، فإنّه ارتكز على «الكوميديا السّوداء» التي رسمت الضّحكات على ثغور المتفرجين على الرغم من شدة وقع أحداث الفلم عليهم.
في «الجايدة» ألبست أغلب النساء لباس الشّجاعة رغم صعوبة شموخ المرأة أمام مجتمعها أنذاك، تحدّت كلّ منهنّ الظّلم بطريقتها الخاصة، رفضت «بهجة» مثلا الصّفح عن زوجها بعدما خانها مع شقيقتها وأبت «آمال» العيش مع زوجها في ظلّ تدخّل حماتها الشّديد في تفاصيل حياتها الشخصية واحتقارها لأنها لم تنجب لها حفيدا ذكرا ولم ترض «ليلى» بفتات العلاقة الجنسيّة الذي يتشدّق به زوجها عليها ووقفت «حسينة» ببسالة أمام خالها الذي قرّر حرمانها من مزاولة دروسها عقابا لها على عشقها لأحد أبناء ولاية «الكاف» ، فكان رفضه بتعلّة أن الفتى ليس «ابن تونس المدينة» أولا ثم أنه ثائر في وجه الاستعمار.

«الانتحار حريّة من نوع آخر»
فكانت لكلّ منهنّ نهاية لحكايتها، إحداهنّ كانت لها نهاية حزينة، فقد وضعت «ليلى» نقطة الختام لحياتها عندما زارها زوجها بدار جواد ليشبع شهواته الجنسيّة فما راعه أن وجدها غارقة في دمائها، قطعت شرايينها ودمرت عضوها التناسليّ لتقطع مع «الشهوة» التي جعلتها تخون زوجها الطاعن في السّن والتي حرمتها النوم.
وأثارت هذه النهاية جدلا وتساؤلا كبيرين في صفوف الحاضرين بالمركز، إذ تساءلوا عن سبب تصوير المخرجة وكاتبة السيناريو «سلمى بكار» للمرأة بهذا الضّعف، فكان توضيح «بكار» أن الانتحار كرمزيّة لم يكن ضعفا أو هروبا بقدر ما كان وجها آخر من أوجه «الحريّة».
كما ذكّرت المخرجة بمرجع أعمالها لمزيد توضيح مصير «ليلى» وهو نصّ « ألبير كامو Albert Camus « الذي جعلها ترى القوّة في أبلغ الصّور حزنا وضربت هنا مثال «سيزيف « الذي دعا «كامو» إلى تخيّله مسرورا لأنه يمتلك مصيره وهو ما جسّدته «سهير بن عمارة» عبر شخصيّة «ليلى».

بالعلم تتحرّر المرأة
عن جملة تكررت أكثر من مرة خلال الفلم مفادها «بالعلم تتحرر المرأة» علّق أحد الحضور على ربط «سلمى بكار» إمكانية نيل المرأة لحقوقها كاملة وحصولها على سيادة نفسها بالعلم، فيما توجد حلول أخرى، غير أن المرأة اليوم مازالت تعاني من التمييز الجنسي رغم أنها متعلمة لأن المشكلة لا تكمن في ذاتها فقط بل تتجاوزها حسب رأيه.
فأجابت المخرجة أن كل أشكال النضال حسب رأيها تبدأ من الوعي ولن يتشكل الوعي من الجهل إلا في حالات نادرة جدا، إذن فالعلم هو بذرة الوعي الأولى وهو منطلق ثورة المرأة على المجتمع الذكوري الذي يكبّل كيانها، كما أنّه دليلها في تغيير عقليّة محيطها وفي تربية أجيال قادمة تراها والرّجل سواسية.
وأضافت أنّ العلم هو فرق المرأة التي تعلم كلّ أبنائها (ذكور وإناث) القيام بأشغال المنزل ولا تستثني أحدا من حقّه في عيش طفولته على أكمل وجه، عن المرأة التي تحتفل ب»طهور» ابنها الصّغير على شاكلة عرس فتزرع فيه الغطرسة منذ الصغر وتربيّ بناتها في المقابل على التّقليل من شأن أنفسهنّ .
وعن معاناة المرأة الحاليّة من ظاهرة التّمييز الجنسيّ فإن نسبتهنّ قد انخفضت بالتأكيد مقارنة بالقرن الماضي مثلا، كما أنّ أشكال الاضطهاد التي تعيشها تختلف إلى حدّ ما عمّا تعيشه الآن والفلم أكبر دليل على ذلك.
وختمت إجابتها بأن سبل التقدم والمقاومة مازالت مستمرّة.

الجايدة «تزييف» للتّاريخ؟
«انتهت أوجاع النّساء بمجيء «المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة» إلى ميناء حلق الوادي وسط أجواء احتفالية من الشعب التونسي يهتفون «يحيا بورقيبة» .ومحيت في ذلك المشهد أسماء الكثير من الأبطال والثوّار إضافة إلى كافّة نضالات النساء وبصماتهنّ من تاريخ تحقيق الاستقلال، فرأينا أنّ من كبّل المرأة رجل ومن حرّرها رجل وكأنها أداة في يده.
أي أنّ ما سعيت إلى بنائه ساعة ونصف انهار أمامنا في نهاية الفلم عندما تمّ تزييف جزء كبير من التّاريخ»
هكذا انتقدت إحدى الصحفيّات رؤية «سلمى بكار» التي دافعت عن عملها قائلة: «عالج الفلم فترة ما قبل الاستقلال مباشرة أي أنّ عملا سينمائيا واحدًا غير كافٍ بكلّ تأكيد لنقل كافة تفاصيل التاريخ، أنا لا أنكر مساهمات النساء الفعّالة في استقلال تونس ولكنّ الفلم اتخذ هذه الزّاوية والتي لم تتعارض بدورها مع الحقائق والوقائع التي عاشتها بلادنا».

وقائع في شكل رمزيّات
وفي سؤال عن المشهد الأخير -الذي ظهرت فيه الممثلة «وجيهة الجندوبي» في مجلس نواب الشعب تدافع عن المرأة- إن كانت المخرجة وقعت في فخّ تضمين تجاربها وحياتها الشخصيّة في عمل سينيمائي، ردّت «بكار» أنّها لم تقع في فخّ بل تعمّدت أن تترك بصمتها على الفلم بطريقتها الخاصّة لتكون نموذجاً يبيّن الفرق بين الماضي والحاضر، كما أكّدت أنّه

حقّ من حقوقها كمخرجة ومؤلّفة.

ولم يكن من الممكن المرور دون الاستفسار عن رمزية «الأرجل» التي بدأ وانتهى بها الفلم، فكان جواب «سلمى بكار» أنّ التركيز لم يكن على الأرجل بل على الخطوات، إذ أنّ خطوات الأربع نساء اللائي ظهرن في أول مشاهد الفلم كانت متردّدة، خائفة وغير واثقة لتصبح في ختام الفلم جريئة، قويّة وعازمة. وهنا تتّضح المفارقة بين عهدي الاستعمار والاستقلال وما يحملانه في جعبتهما من خفايا تهم المرأة والرجل على حدّ سواء.

أنار فلم «الجايدة» إلى حدّ ما خيال التونسي وجعله على مقربة من الماضي الصّعب الذي كانت تحيى فيه المرأة قبل صدور مجلّة الأحوال الشّخصيّة سنة 1956 ولعلّ أهم جملة ذكرت في نهايته مفادها «والنّضال متواصل...».

رحمة السياري

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115