مفارقة السلام و الانفتاح بين القرن الواحد والعشرين والعصور الوسطى: فهل عجز المعاصرون عن تحقيق ماحققه فريدريك الثاني ؟

سمية العاشوري

طالبة ماجستير بحث في التواصل بين الثقافات، اختصاص لغة و حضارة إيطالية.

كثيراً ما يثير انتباهي ذلك الحكم المسبق، المسقط لكثير من المؤرخين على عصور قديمة مضت بوصفها بالفترات «المظلمة من التاريخ» المليئة بالحروب والجهل و رفض الأخر. أتساءل حقيقةً إن كان الوضع قد اختلف على ما كان عليه في القرن الواحد و العشرين؟ أو ربما كانت تلك العصور الوسطى تكتسب الكثير من مقومات الحداثة والملامح التقدمية التي تميزها عن هذه الفترة التي نعاصرها رغم حداثتها ورغم انتشار الوعي، ورغم كل ما تتمتع به من حقوق وحريات تحمي كل الأفراد حتى الأقليات منها، إلا أننا عجزنا عن الالتقاء معا تحت سقف الإنسانية. ليشهد القرن الواحد والعشرون من الصراعات والاغتيالات والعنصرية ما لم تشهده عصور من القرون الوسطى، واقع مؤلم مليء بالحروب الناجمة عن رفض الآخر

المختلف فكرياً، عرقياً، دينياً وثقافياً، حروب تنهش من نسيج المجتمعات وتدمر الروابط الإنسانية بين الأفراد و تلغي في كثير من الأوقات بعضاً من العلاقات الدولية. فهل أضحى العيش في سلام و اختلاف في زمننا شيئاً من قبيل المستحيل؟ هل عجز الحكام عن ضمان حقوق الجميع رغم الاختلافات؟ هل أصبح الإقصاء ثقافة عالمية؟ لذلك توجب علينا العودة للماضي والبحث في التاريخ جيّداً علّنا نجد مثالاً نقتدي به ونتعلم منه أسس التعايش السلمي والتلاقح الفكري، علّه يكون رسالة سلام واستفاقة لضمير الكثيرين منّا .

لتعود بنا الذاكرة ثمان مائة و أربعة عشرين سنة مرت، في زمن كانت مفاهيمنا الحديثة من «تلاقح بين الثقافات» و«حق الاختلاف والتنوع» تسجل تحت عبارات «الإنسانية» و«التسامح»، لنحط الرحال في سنة 1194، سنة ولادة الإمبراطور المستقبلي لأوّل دولة متعددة الأعراق والثقافات في تاريخ أوروبا، الطفل اليتيم الذي تعانقت الحضارات مند نشأته ليتدفق في عروقه دم اثنين من أكبر الأسر المالكة: دم الملوك النورمان الإيطاليين ممتزجاً بدماء أباطرة هوهنستاوفن Hohenstaufen الألمان . النقاش التاريخي حول شخصيته لا يزال حيا وحديثا. فريدريك السياسي المحنك، الممسك بزمام السلطة مدة 35 سنة كاملة، الحاصد لألقاب جمّة فكان ملك صقلية ، ملك القبرص والقدس، ملك الرومان، ملك ألمانيا والإمبراطور الروماني المقدس ،المهتم كثيراً بالشأن الإداري إلى أن لقب في عهد التنوير بلقب «أول رجل دولة» «il primo uomo di stato» و«الحاكم المستنير»«il sovrano illuminato». ثم إن ولادته العجيبة أمام مسمع ومرأى من الجميع في ساحة السوق في jesi ، إضافةً لانفتاحه وحريته واهتماماته الفكرية كل هذه العناصر جعلت منه شخصية أسطورية، محاطة بعدد من الأساطير ولدت بعد وفاته حتى أنه شكّك ما إذا كان قد مات حقا سنة 1250.

يعتبر فريدريك الثاني الوريث المنقذ الفاتح لعصرٍ ذهبي جديد للبشرية. «رجل النهضة» قبل أن يحل عهد النهضة بمائة عام، الملقب «بأول رجل حديث على العرش»«il primo uomom oderno sul trono». «أعجوبة العالم» «lo stupor mundi» كبر بين شوارع و أسواق باليرمو Palermo، تلك العاصمة ذات الملامح الإفريقية ، تقف فيها المساجد والمعابد بجوار الكنائس والكاتدرائيات النورمانية، حيث تختلط فيها اللغات، الأديان والعادات بين أناسٍ إيطالية، لاتينية، عربية، يونانية، ألمانية ونورمانية الأصل. فأخذ من طباع كل الشعوب التي عايشها وأتقن بطلاقة لغاتهم إضافة إلى اللغة الفرنسية واللهجة المحلية وتشبع بالآراء الشرقية، وبعض معارف اليهود. ليجعل من بلاطه جسراً بين الشرق والغرب، مساحةً يجتمع فيها أعظم العلماء والفلاسفة المسلمين ، اليهود والمسيحيين الذين ذاع صيتهم في عصره، لتترجم في قصره أهم الآثار و المراجع من العربية واليونانية إلى اللغة اللاتينية. فكانت طفولته وحياته نتاجاً لتأثير محيطه المنفتح والثري بالتنوع لتصبح شخصيته واحدة من بين أكثر الشخصيات تعقيداً وإثارةً عبر التاريخ.
الإمبراطور الشغوف بالرياضيات والكيمياء الباحث في العلوم الطبيعية صاحب كتاب «فن الصيد بالطيور»

«De Arte Venandi cum avibus» و الأثر الفلسفي «المسائل الصقلية» «Le questioni Siciliane» وكلاهما كان نتاجاً لانبهاره بالفكر العربي، الشاعر المتأثر بالغزل العربي، قام بإنشاء مدرسة شعرية عرفت «بالمدرسة الصقلية» «la Scuola siciliana» أو «المدرسة الصقلية الشعرية» «la Scuola poetica siciliana». فريدريك كان مقتاداً ببعض الأمراء في بغداد، محاطاً بالمسلمين وبالنساء الحسان إلى أن اتهمه رجال الدين وأعداؤه بأنه أنشأ لنفسه «حريماً»، فلقبوه في العصور الوسطى «بالمسيحي المسلم»«il musulmano battezzato» كما اتهم أيضا بالهرطقة لسعيه المتواصل للحد من سلطة الكنيسة وفصلها عن الدولة، فردّ فريدريك قائلا أن رجال الدين هم «عبيد للدّنيا منهمكون في ملذاتهم، لم تبق ثروتهم المتزايدة على شيء من تقواهم» إلى أن طرد مرتين من الدين المسيحي، لذلك حضيت شخصيته بعناية كبيرة من قبل المؤرخين في القرن التاسع عشر استنادا على مفاهيم "اللائكية" المنتشرة في عصره وسعيه وراء توحيد إيطاليا تحت راية، ملك، لغة ونظام واحد ليعرف «بالبطل المثالي للوحدة الوطنية» «un eroe ideale dell'unificazione nazionale».

فريدرك الدبلوماسي الناجح أكدت حملته الصليبيّة السادسة التي قادها في عام 1229 نحو فلسطين ، بأنّ الحلول السلميّة أنجع من الحرب. فأفلح الإمبراطور في تحقيق نصر عظيم دون أن يريق قطرة دم واحدة، فتحاً عجز عنه المسيحيون في مائة عام كاملة، بل وقّع أيضاً مع الإمبراطور الكامل ملك مصر معاهدة سلم لعشر سنين وعشرة شهور وأطلق خلالها العديد من الأسرى من الطرفين المتعاقدين، معاهدة أعطاه الكامل بمقتضاها مدن عكا ويافا وصيدا والناصرة و بيت لحم و أغلب مدينة بيت المقدس ما عدا الفضاء المحيط بقبة الصخرة المقدسة عند المسلمين. وأجيز للطرفين أن يدخلا مدن بعض فأقيمت صلوات الحجاج المسيحيين في موضع هيكل سليمان، وهو ما فعله المسلمون في بيت لحم. وتعايشت الثقافتان المسيحية والإسلامية فترة من الزمن في سلام تحترم كلتاهما الأخرى.

وكان فردريك يخشى أن تضيع بحوث العلماء التي جمعها عنده بعد موتهم، فأنشأ في عام 1224 جامعة نابلي Napoli، أول جامعة حكومية لائكية في تاريخ أوروبا حيث دعا لها أشهر العلماء من جلّ بقاع العالم ليدرّسوا الطلبة من كل الجنسيات ووفّر لهم المنح والإعانات وكلّف المتميّزين منهم بمهام إداريّة ومناصب رسميّة سياسيّة هامّة . إضافةً إلى منحه جميع أصحاب العقائد المختلفة في مملكته حرّية العبادة دون قيود. المشرّع ورجل القانون المدافع عن المرأة نقّح سنة 1231 القوانين القديمة لفائدة الأجانب في كتابه الذي يعدّ أعظم كتاب في فقه التشريع «le costituzioni melfitane» فأشركهم في جميع مجالات الحياة ليحقّق بذلك النظام و العدالة و يضمن لجميع رعاياه العيش الكريم والأمن. فرديرك كان يفضل جنوده من العرب الأكثر ولاءله وبعد نزاعات كثيرة قرر إعطاء العرب قطعة أرض في لوشيرا Lucera من ولاية بوليا Puglia الواقعة في جنوب إيطاليا ، أقاموا عليها إمارتهم التي أصبحت عاصمة لدولة إسلامية مستقلة صغيرة يحكمها أمير ولها نظام و مسجد و تستمد الأوامر العليا من الإمبراطور.

أمّا في جانب العمارة والبنيان فقد كان هذا التلاقح والانفتاح يظهر جلياً للعيان من خلال القصور التي شيّدها فردريك والتي تعد بأكثر من 250 قصراً أشرف بنفسه على بنائها، لتتمازج و تتناسق فيها الأذواق و الأنماط و الثقافات التي لطالما أثّرت فيه و رسمت تميّزه و ملامح شخصيّته وفكره السابق لعصره.
إن هذا النص القصير لا يمثل إلّا الشّيء القليل ممّا ذكره التاريخ عن التّسامح وقبول الاختلاف الذي نشره فكر فردريك المتنوّر، من التعايش السّلمي في عصره، من التلاقح الفكري والمعرفي والثقافي الذي أثرى به مملكته.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115