العرض العراقي «صفر سالب» لعلي دعيم: أنا جسدي وجسدي تاريخي وعنوان للوجود والمقاومة

جميل ان يكون الجسد حمال تاريخ وعنوان للحضارة وتكون الحركة مطية لاكتشاف حكايات شعب ما، مميزة هي لغة الجسد الصامتة

والناطقة بآلاف الحكايات و القصص، حين يكون الجسد عنوانا للتاريخ والحضارة ويكون حاملا لهوية شعب ما، هكذا هو العرض العراقي «0سالب» للمخرج علي دعيم عمل من انتاج فرقة مسرح بغداد.

عمل يؤكد ان من الجسد تنفجر التعابير الانسانية والتاريخية لدولة ما،
على الركح اجتمع كل من علي دعيم وضرغام البياتي وامين جبار ومصطفى نبيل واثير اسماعيل وسهيل نجم ومرتضى علي وزين علي كزار وعلاء قحطان للحديث عن قوة الجسد الهائلة وقدرته على الاقناع.

باسم «اللهّ» و«الدين» يشوه التاريخ
انطلق العرض من الخارج منذ مدخل قاعة الفن الرابع يعترضك الراقصون في لباس المهن، لكل مهنته كل يمارس عمله وينكب عليه دون دراية، اختلاف اللون والحركة من النجار الى ماسح الاحذية فالنادل و الموظف وطالب العلم، الوانهم مختلفة وأزيائهم كذلك للاشارة الى الحياة والواقع قبل دخول داعش الذي وحد المهنة ووحد اللون وعوض الاحمر والأزرق و البنفسجي والبرتقالي الكل سيجتمع حول الاسود (سيد الالوان).

«صفر سالب» كتاب تاريخ مفتوح هكذا يمكن وصف العرض، موسيقى قوية كما صرير الرياح وحفيف اشجار ترفض السقوط من أماكنها على الركح، جسدين كلاهما مغطى بالطين كليا وللطين رمزية الولادة و الارض هو لون التراب وكأننا بالراقصين يحملوننا الى لحظة البدء لحظة ولادة الانسان والحضارة معا، خطوات سريعة ، تتحرك الاجساد بعنف، تضطرب على الركح وكأنها تحاول نزع ذاك الثوب الطيني الذي يرمز ايضا الى «العفن» و محاولة التخلص من ادران الواقع والحضارة والتاريخ الذي يعانيه الانسان منذ الخليقة الى الموت، خاصة الانسان العربي الذي يولد فيتحمل مسؤولية العرق واللون والطائفة والوطن والجنسية والفكر وهو لا يزال رضيعا تحدد له وتسطر له حياته كما شاءت الحضارة وشاء المجتمع.

في الجزء الخلفي للرّكح، مربع كبير خلفه جسد انسان طويل الشعر، يرسم بيديه تشكيلات وخطوط وكأنه يصنع شبكة عنكبوت يصعب اختراقها، ولتلك الشبكة رمزيتان الاولى محاولة تنظيم «داعش» الإرهابي تحصين نفسه من عدو خارجي بالبناء وتسييج المناطق التي احتلها والثانية الى سياسيي البلد وأصحاب القرار الذين يغلقون الابواب والمنافذ على انفسهم فقط ليحافظوا على كرسي السلطة دون الاهتمام لمشاغل الشعب وهمومه.

يرتفع صوت الموسيقى وكأننا بدقات قلب الانسان ستتوقف عن الحركة، يصبح الضوء اصفر مقلقا تماما كلون الموت، يخرج خمسة راقصين يلبسون ازياء طبية يحملون بين ايديهم كتابا ضخما، يجتمعون حوله تماما كما يجتمع الاطباء حول المريض، يقلبونه يمنة ويسرة ثم تنطلق عملية التشويه والتمزيق، تماما كما فعلت داعش في كلّ مكان وطأته .

فهم يرون انفسهم اطباء لمداواة الفجور و الابتعاد عن الله و يريدون مداواة البشر من الفسق والموسيقى والرقص و الامل والألوان، تمزيق الكتاب رافقه صوت صراخ وكأنه صرخة العراقيين حين شوهت حضارتهم ومزق تاريخهم وشوهت الديانات السماوية مشهد تمزيق الكتاب وكأنه لحظة موت جسدها الراقصون بسقوطهم جميعا على الركح تماما كما سقطت عدة مدن بيد حكم داعش تشويه الذاكرة اشير اليه ايضا بتغيير كتاب التاريخ الضخم بحاسوب (بكبسة زر لك ان تغير وتحرّف ماتشاء)، بالجسد تحدث الراقصون عمّن نصبوا انفسهم صوت الله ويديه، على الركح يجسدون ما عاشته الموصل تحديدا والعراق عموما وجل الدول العربية، بأجسادهم كتبوا إلياذة ونقلوا الحقيقة دون كلام حركات وكأنها مقولة انشتاين «أنا فنان كفاية لأرسم بحرية في مخيلتي الخيال اكثر اهمية من المعرفة» وهم رسموا في خيال الجمهور الكثير من الحقائق.

الجسد ذاكرة متقدة
الجسد ذاكرة حية، الجسد لغة لا تنطفئ مفرداتها جسد الراقصين التسعة كان الياذة للمقاومة، بالجسد اختاروا التعبير عن وجيعة وطنهم وأوطان كثيرة، حركات فردية حينا وجماعية احيانا اخرى للإشارة الى الوجع الجماعي، وجع مختلف التلوينات تماما كما العراق بكل طوائفه ومذاهبه، وجع الوطن اشد قسوة من وجع الاختلاف هكذا اراد علي دعيم ان يقول من خلال «صفر سالب».

تنخفض الموسيقى، يميل الضوء الى السواد يتراجع الراقصون قليلا، ثم يعودون من جديد حاملين نفس الكتاب يتأملونها بعيون زائغة و الطين قد سقط نصفه عن الاجساد وكلما تحركوا تناثر الغبار، مشهد وكأنه يحمل المتفرج الى «جرائم داعش في الموصل» فمنذ دخول الموصل لم تدخر داعش جهدا في تدمير الذاكرة الجماعية والحضارية للموصل وعلى سبيل الذكر لا الحصر قامت قوات داعش بتفجير جامع النوري اكبر مساجد الموصل القديمة ويحمل اسم النوري نسبة الى نور الدين الزنكي الذي امر ببنائه عام 1172ميلادي وتقع الى جانبه منارة الحدباء المائلة وهي رمز الدينار العراقي، داعش فجرت الكثير من المعالم في الموصل، و من لا يتذكر فاجعة تحطيم التحف والآثار في متحف الموصل الذي يعتبر اكبر المتاحف بعد المتحف العراقي في بغداد الذي تأسس عام 1952 وتضم بناياته أربع قاعات إحداها للآثار القديمة والأخرى للاثار الحضرية وثالثة للأشورية وأخرها للحضارة الاسلامية، فاجعة تجسدت في تحطيم التمثال الاشوري العائد الى القرن 19قبل الميلاد كما قامت بتحطيم الثور المجنح الخاص في بوابة نركال احدى بوابات مدينة نينوى الاثرية بتعلة انه «صنم» وعبادة الاصنام حرام.

داعش الارهابي حطّم مقام النبي يونس وهو من مساجد العراق التاريخية الاثرية و يقع على السفح الغربي من تل التوبة، و دمّر مسجد النبي شيث دون نسيان المعابد الازيدية، شعراء بغداد ورموزها الفكرية لم تسلم تماثيلهم من جبروت داعش اذ قامت بجرف تمثال الشاعر العباسي ابو تمام و الموسيقار عثماني الموصلي .

أثار مدينة النمرود التي تعود الى القرن 13قبل الميلاد التي كانت مرشحة لتكون في لائحة التراث العالمي اليونسكو هي الاخرى دمّرت و قلعة تل عفر التاريخية وهي بقايا مدينة اشورية قديمة قديمة كانت تسمى «نمت عشتار» بالإضافة الى اثار رومانية منها تفجير كنيسة ماركوركيس الواقعة شمالي الموصل ، حقائق تاريخية عاشها سكان الموصل نقلت على الركح في حركات مضطربة ووجيعة محو هوية الموصل محو تاريخ العرق محو الذاكرة و ومحاولة زرع ذاكرة اخرى سوداء اللوان، اجساد الراقصين التسعة كانت عنوان ذاكرة لن تنطفئ بحركاتهم حملوا الجمهور التونسي لقراءة ماعاشته العراق من تدمير للتراث وبأجسادهم ونبضات قلوبهم وتشنجاتهم كتبوا تاريخ العراق منذ دخول داعش الى الموصل.

رمزيات «صفر سالب»
«صفر سالب» عمل كوريغرافي من العراق للمخرج علي دعيم، عمل متقد لوعة ووجيعة، درس في التاريخ، درس رغم قتامته يؤكد ان هناك امل لإعادة البناء... ففي آخر الركح يوجد راقصون طيلة العرض وهم يغسلون «ثياب» الظلم والجبروت والحيف، يغسلون ادران الخطأ البشري والجهل الجماعي، يغسلون تعاسة الواقع ومحاولة تغيير السواد الى بياض عملا بمقولة ابن العراق أبو تمام «وما من شدة الا سياتي لها بعد شدتها رخاء».

للعمل رمزيات عديدة فالصفر يرمز الى العرب لأنهم اخترعوا هذا الرقم، و«السالب» ترمز الى السلبيية تحديدا سلبية أصحاب القرار الذين نجدهم في العمل في شكل خيال الظل يحاول احدهم صعود الدرج فيجد الباب مغلقا يتركه ويعود ادراجه، سلبية اصحاب القرار انعكست على المجتمع الذي استسلم هو الاخر لليأس ولكن الفن أداة للسؤال و«السؤال» هو الذي عملت عليه كل المجموعة على الركح «لا تتوقف عن السؤال فالفضول يحمل اسباب وجوده معه، الواحد منا لا يستطيع إلا أن يكون منبهرا عندما يتأمل أسرار النهاية الحياة و المبنى المدهش لهذا الوجود يكفينا ان نحاول استيعاب القليل من هذه الأسرار يوميا».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115