في افتتاح سلسة المحاضرات حول «مظاهر التدين في تونس» الباحث وحيد السعفي يفكّك آليات الشأن الديني

إن كانت تونس على مرّ التاريخ أرض حضارات ومهد ثقافات، فهي أرض ديانات على مرّ العصور. وفي التآلف المتسامح والتجاور السلمي على أرضها ما بين المسجد والمعبد والكنيسة، برهان لا يحتاج إلى دليل على أنّ تونس كانت ولا تزال حاضنة للاختلاف والتنوّع في مظاهر التديّن. وفي رصد لوجوه هذا الاختلاف وتتبّع لتجليّات هذا التنّوع، ينظم معهد البحوث

في الأديان وجمعية زنوبيا للفن والإبداع وفضاء التياترو سلسلة من المحاضرات الشهرية حول الأديان والمذاهب في تونس قصد التعريف بها والتأريخ لها ... وذلك مساء يوم الثلاثاء الثالث من كل شهر بفضاء التياترو .

استهلال سلسلة هذه المحاضرات حول «مظاهر التديّن في تونس»، كان بإمضاء الدكتور وحيد السعفي تحت عنوان «في الشأن الديني» وذلك مساء الثلاثاء 21 نوفمبر 2017 بفضاء التياترو. وقد قدّم منسّق المحاضرة الإعلامي زياد كريشان ضيفه المُحاضِر بأنه من أهم الباحثين في هذه المسألة وله عديد الإصدارات في الخطاب الديني... مشيرا إلى
أن هذه المحاضرة تسعى إلى البحث عن أجوبة لأسئلة تبدو من قبيل البديهيات من قبيل: ما الدين؟ ما التديّن؟ ما علاقة الإنسان بالدين؟

الدين في علاقة بالماء والسماء
« أنا قارئ نصّ ليس غير... وهذه القراءةُ لا تستقيم إلاّ خارج إطار الكفر والإيمان، فلا يُنظر إليها بمنظار الدين أو قلّة الدين، بل بوصفها كشفا لمظاهر الدين كما تجلّت في عالم الإنسان الثقافة، فهو من باب الأنتروبولوجيا الثقافية.» هكذا شاء الباحث وحيد السعفي أن يفتتح محاضرته «في الشأن الديني بملاحظات أوّلية ومبدئية قبل أن ينطلق في إلقاء محاضرته التي كانت عبارة عن نص فكري في قالب موغل في الشاعرية سافر بالحضور في رحلة شيّقة وممتعة على متن أجنحة الخيال في قصة البدايات، في حكاية البشرية، في نشأة الدين...

وقد ربط الكاتب وحيد السعفي بين تعدّد الحضارات وتعدّد مظاهر التديّن في تونس قائلا: «يمكن أن نقول ولا حرج إنّ تونس التي كثيرا ما قيل فيها كانت أرض حضارات وكانت أرض تاريخ تشكّل ثلاثين قرنا أو أكثر، هي أرض للدين، تعدّد فيها وتَنوّع. ها المعابد تروي قَصص التديّن القديم فيها، رومانية وفينيقية وقرطاجنية وبربرية قديمة، تتغنّى بالآلهة الكثر، وترسم للإنسان بها علاقات لقضاء الحاجات، والإنسان كان قضّاء حاجات. ها المقابر تروي قَصص الموت الذي لا يستقيم إلاّ في ظلّ الشعائر والتعبّد والخوف. ها البِيَعُ، ها الكنائس، ها المساجدُ تُحدّث بربّ واحد تَشكّل وجوها ثلاثة للتوحيد الذي ساد الأرض ساعة اهتدى الإنسان إلى ربّه وأسقط التعدّد».
وتحت عنوان «ارتباط الدين بالسماء»، كانت مقاربة الباحث وحيد السعفي كالآتي:» ارتبط الربّ بالسماء، ارتبط بالخصب، وشعُر الإنسان بالدَّيْن. شعُر بأنّه مَدين إلى الربّ. وحتى يدفع ديْنه ويخلُص قدّم القرابين لربّ السماء. صلّى لربّ السماء. ابتهل. وكثيرا ما تشكّلت السماء صورة للخصب بفضل المطر، فربطت الشعوب الخصبَ بالأنثى، وأقامت على الخصب الآلِهات. عشتار في بابل ، وإنَّنا في سومر، وفينوس عند الرومان ، وأفروديت عند اليونان، وإيزيس في مصر، ونائلة على رأس الجبل عند العرب القدامى، يسعون بينها وبين إساف بعلِها. أمّا هنا، في هذه الأرض، فقد قامت تانيت مرفوعة اليدين تبتهل كما نبتهل. قامت وجها آخر لبعل في السماء كان يجحدنا المطر هنا يتجلّى أهمّ مظهر من مظاهر التديّن. هنا القصة المؤسسة لما أطلقنا عليه الشأن الديني».

الكِتاب سند النظام الديني
يرى الدكتور وحيد السعفي في محاضرته حول الشأن الديني أن « أوّل شيء يلفت الانتباه في النظام الديني الجديد اعتمادُه الكِتاب سندا». وفي هذا السياق، يضيف:» الكِتاب في المعنى الذي سيكرّسه في تجلّياته الثلاث المختلفة، العهد القديم والعهد الجديد والقرآن، هو كلمة الله، وكلمة الله التي تشكّلت كتابا تنحو إلى حصر نفسها في مفهوم للكتاب لا يسمح لغيرها من الكلمات أنْ تكون كتابا. فالكتاب هو كلمة الله، وهو ما كُتب على الناس، وهو لا كتاب غيرُه، وهو الكتاب وغيره قراطيس ليس غير. لذلك كان معنى الكتاب في الدين أي الكتاب المقدّس».

واعتبر الباحث وحيد السعفي أن أهمّ تطور في تاريخ الإنسان كان بالخلاص من القربان البشري حيث يقول: «يتمثّل عمل إبراهيم خاصّة في تخليصِه الإنسان من تقديم القرابين البشرية ساعة فدى الإنسان، بفضل ربّه الذي وجد قد فطر السماواتِ والأرض وخلق الإنسان، ابنه البكر بحيوان. وهذا أهمّ تطوّر في تاريخ الإنسان. فإبراهيم تشكّل هنا صورة ورمزا لما وصلته البشرية جمعاء من تطوّر في مستوى ربطها العلاقة بالربّ. الإسلامُ وحده مازال محافظا على تقليده النبويّ الذي خلّده إبراهيم».

وفي سياق تطرقه إلى «المشترك في الدين» يقول الباحث وحيد السعفي في محاضرته:»رغم ما يبدو في نظام التديّن عند المجموعات الدينية من اختلاف، فإنها تؤثّر جميعا في الأرض التي هي عليها. ويؤثّر بعضُها في بعض وإن من حيث لا ندري. وهذا واضح عند أضرحة أوليائنا والزوايا التي تربط إسلامنا بمظاهر الاعتقاد البربرية قبل الإسلام والإفريقية كذلك. وهذا واضح في حَلالنا الذي لا يختلف فيه يهود أو مسلمون إلاّ بنصيب. وهذا واضح في عطلنا التي تحمل نفس عطل النصارى وإن تستّرنا على ذلك بأن جعلنا عيد الميلاد عطلة للشتاء، وجعلنا عيد الفصح عطلة للربيع».

الشأن الديني والتقليد النبوي
«إنّ الشأن الديني الذي نكرّس في أغلب مقولاتنا هو شأن كثيرا ما أدرجناه في التقليد النبوي»، هكذا يرى الدكتور وحيد السعفي مضيفا: «التقليد النبوي شكل في الدين سعى إلى حصر نفسه في مقولات لا تسمح بنشأة وجوه أخرى للدين. كذلك تحصّنت اليهودية بأنْ جعلت النبوّة في بني إسرائيل وكرّست مقولة الشعب المختار. وكذلك فعلت المسيحيّة بأنْ كرّست مقولة تشكّل الإله بشرا التي تنحو إلى حصر نفسها في المرّة الحدث ولا تقبل التكرارَ. وحصّن الإسلام نفسه بمقولة الختم، الختم في القرآن، الختمِ في النبوّة، وحتى الختم في الثقافة.»

وينهي الباحث وحيد السعفي محاضرته القيّمة بفتح باب التساؤل على النوافذ التالية: «هل نجحت الأديان في وقف نشأة الدين؟ أليست الإمامة، والإمام المعصوم، مقولات في وقف الختم؟ أليست البهائية دينا نشأت في حضن الدين القديم؟»

وكانت نهاية محاضرة الدكتور وحيد السعفي «في الشأن الديني» بداية الأسئلة المُعلّقة ما بين حيرة العقل ومقولات النص، والاستفهام المستفسر عن كنه الدين وماهية الإنسان في علاقته بالدين... ويعود هذا التفاعل من قبل الجمهور النوعي من جامعيين وباحثين ومثقفين إلى تميز واجتهاد صاحب المحاضرة في تقديم نص ثري وجذاب تقصّى فيه ما أمكن من أثر لنشأة الدين وقصص الإنسان في علاقته بالرب في مقاربة علمية اتبّعت معطيات التاريخ وحدود الجغرافيا ونبشت في أعماق المتشابه والمشترك في طيّات مختلف الأديان.

بعد طيّ صفحة محاضرة «في الشأن الديني» سيكون الموعد في الشهر المقبل الموافق ليوم الثلاثاء 19 ديسمبر 2017 بفضاء التياترو مع محاضرة جديدة بعنوان «في الاسلام السياسي».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115