إصدارات: « مزامير من سفر الأنا » للشاعر عبد الحكيم الربيعي خروج إلى عتبات نصوص شعرية منفتحة في رؤية جديدة ومختلفة ..

بادئ ذي بدء يقول أدونيس: «عش ألقا، ابتكر قصيدة وامض، زد سعة الأرض» وبذلك يكون أدونيس قد استطاع أن يزيد سعة الأرض بتوسعة الرؤيا وتضييق العبارة انسجاما مع المقولة الشهيرة للنفري التي يقول فيها: «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة» هكذا بدا شعر عبد الحكيم الربيعي مضيقا للعبارة معولا على التكثيف و التخلص من الزائف و العرضي وهكذا أبدأ

من محتوى النص لأقف على عتبة المجموعة الشعرية  « مزامير من سفر الأنا « الصادرة عن دار الثّقافية للنّشر/ المنستير، في 68 صفحة وضمت بين طياتها 45 قصيدة نثرية تنتمي في مجملها إلى قصيدة الومضة باستثناء بعض النصوص التي جاءت مطولة مقارنة ببقية النصوص والتي مزج الشاعر فيها بين عدة متناقضات طغت عليها مسحة الحزن و القلق الناجم عن الغربة والاغتراب داخل الوطن..في البداية لابد من أن نقف على عتبة العنوان «مزامير من سفر الأنا» وهي تذكرنا بمزامير داوود و التي تعرف في العبرية باسم تهليم أي «الحمد والتسبيح أو التهليل»، أما في اليونانية فتعرف باسم أبسالموس بمعنى أغنية مقدسة أو مزمور أو تأتي بلفظة يُرتل [ ترتيلة أو مديح ]، أما اسمه في العربية «مزامير» فهو من الفعل «زمَّرَ» أي غنى أو أنشد بمصاحبة المزمار أو غيره من الآلات الموسيقية..والمزامير هو سفر الاختبارات الروحية والتسابيح والتراتيل، نظمت كى يرنم بها وقت العبادة. وفي أطوار حياتنا كلها نجد سفر المزامير دائماً معيناً شديداً لنا، في أوقات الحزن والفرح، القوة والضعف، الصحة والمرض، فى الصغر والشباب والشيخوخة يكون سبب فرح وتعزية وتشديد وتعضيد وبركة.

المجموعة الشعرية وارتباطها بمزامير داود
 و المجموعة الشعرية « مزامير من سفر الأنا « لا تخلو من ارتباط بينها و بين مزامير داود فتاريخنا و حاضرنا لا يخلو من صراع فالشاعر ضمن أحداث تاريخية حدثت منذ زمن بعيد بأحداث تتكرر بصفة متتالية في جوهرها إيحاء و إخفاء يقول في نص ( ابتهالات الابن الضال ) صفحة ( 21) في إشارة إلى سيدنا آدم: ليشهد الحزن ميلاد موتي/ وتِيهي في غابة التوت

و التفاّح/ و الأمنيات العارية/ أتسوّل ... /أتوسّل وسوسة إبليس /على عتبات اللّهفة.. ليؤكد في نهاية النص أنه هو ذاته يستحق المغفرة فقد غفرت لأبيه في السابق لأنه قد ورث عن أبيه حب الشهوات يقول صفحة ( 22 ): إلهي /حدّثني التاريخ عن نبي ،/ وهو أبي/ غفرت له زلّاته ببعض كلمات/ وأنا الابن مثله /وَرِثت عنه حبّ الشّهوات /فأجرني من نفسي..

كما أن توظيف القصص الموجود في القرآن و مزامير داوود كان توظيفا دلاليا لأحداث و أوضاع سياسية نعيشها الآن وظفها الربيعي للتعبير عنها فهي ليست مجرد أحداث عابرة تنتهي بانتهاء وجودها الواقعي و الفعلي بل لها من الدلالات الباقية والقابلة للتجديد في صيغ و أشكال تتكرر من خلال أحداث جديدة يمكن أن نحمل عليها تأويلات و تفسيرات تعيد الحياة لهذه الشخصيات سواء بالحنين إليها أو لما تحمله هذه الشخصيات والأحداث من أفكار وقضايا.. و بذلك نرى الشاعر يحدثنا عن شخصيات تاريخية و دينية ليصنع الحاضر، فالسفينة في صورتها توحي في اشارة واضحة لقوارب الموت و ما تحمله من معاني الهروب ولكنها ليست رمزا للنجاة بل هي رمز للموت «سآوي إلى جبل يعصمني من الغرق» فلا مرد من النجاة لأنها مغامرة وصراع بين الموت والحياة الذي يجسده نوح « فعلى تعمير نوح مات نوح *** فلكل إمرأة ما تنوح».. فشخصية هابيل القتيل الذي قتله أخوه قابيل راسخة في الأذهان لكونها أول جريمة قتل على وجه الأرض و بذلك حمل قابيل إثم من قتل بعده و هنا إيحاء للتناحر و التقاتل بين إخوة الدين الواحد والدم الواحد والوطن الواحد .

وفي النهاية يمكن أن نقول بأن هذه النصوص ستشد القارئ إليها  خاصة و أنني تصفحت مجموعة «مزامير من سفر الأنا» من ثلاث رؤى مختلفة ( قارئ و شاعر و ناقد ) ولقد لمست فيها خصوصيات جمالية و دلالية تعكس تجربة صاحبها الذي وشح مجموعته الشعرية بعبارة لمحمد الماغوط «أنا اكتب نصوصا ولن أغضب إذا قيل لي أنّني لست شاعرا وإنّما كاتب نصوص»  ليخرج بنا من عتبة القصيدة الشعرية المتعارف عليها بكل مميزاتها إلى عتبات نصوص شعرية منفتحة على الواقع بأنماط مختلفة تعبر عن رؤية جديدة و مختلفة عن سابقاتها عنوانها التفرد..

الهادي عرجون

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115