في العرض قبل الأوّل لفيلم «تونس الليل» لالياس بكار أسرة في مفترق الطرق ووطن على حافة الانهيار ...

«يفترض في الأفلام أن تكون أقرب للموسيقى منها للقصة، دفعة من الأحاسيس المتعاقبة تؤثر في المشاهد تدريجيا، بعد ذلك تأتي القصة والرسائل»... تسجل هذه القولة حضورها في فيلم «تونس الليل» الذي اعتمد الموسيقى شغفا وشفاء وعالما شاعريا تدور في فلكه أحداث هذا الفيلم الروائي. عن تونس التي نعرف ولا نعرف، عن وطن يوجعنا ونحبه، عن الحياة... كانت الحكاية في «تونس الليل».

«بعد فيلمي «عصافر الجنة» و«هي وهو» وهما حسب رأيي أكثر الأعمال التي تناولت فيها المجتمع التونسي بطريقة مباشرة أو بطريقة خيالية... رغبت في لمس شيء من واقع العائلة التونسية وقمت بدراسة لعدة سنوات حتى أكتشف الوسط العائلي وتعامله مع محيطه ومن هنا انطلقت فكرة «تونس الليل»...هكذا قدم المخرج إلياس بكار فيلمه الجديد الذي احتضن أمس المعهد الفرنسي بالعاصمة عرضه الخاص بالإعلام في انتظار نزوله إلى القاعات بداية من يوم 27 سبتمبر 2017.

شاعرية وقراءة عميقة ...في الحياة
أمام حاضر مثقل بألف هم وحكاية معلّقة وواقع يومي متشابه في تكرار مقيت تتجلى شخصيات الفيلم كنماذج حيّة من المجتمع التونسي. فتنساب مسارات فيلم «تونس الليل» منقبة عن المعاني المختلفة للعلاقات الإنسانية... والحياة.
كانت الذاكرة هي المحرك الخفي لأحداث الفيلم، وكان ذلك التداخل الحاضر بالماضي عبارة عن قطعة حسية من الحياة.
في «تونس الليل» يجسد دور البطولة الفنان رؤوف بن عمر في دور المذيع «يوسف بن يونس» ذلك التونسي المثقف والمغرم بالموسيقى الراقية الذي عايش الاستقلال والمرحلة البورقيبية وكل المراحل إلى حدّ وقوع «الثورة» التونسية... وبعد أن قضى يوسف أكثر من ربع قرن في تقديم برنامجه الإذاعي الليلي «تونس الليل» اختار أن تكون حصة الوداع والليلة الأخيرة في الإذاعة قبل الخروج إلى التقاعد استثنائية بكل المقاييس. فتحدث في لغة شاعرية مكثفة الرموز والإشارات عن حادثة حرق البوعزيزي لجسده... في وطن أصبح يأكل أبنائه ! ومن الإذاعة إلى البيت، كان مثال الأسرة غير المنسجمة التي تضم بين أفرادها الأضداد حد العداء ... فنقلت مشاهد الفيلم من خلال نموذج هذه العائلة التي تعيش الشقاء أزمة البلاد التي تتزامن مع أزمة الشخصية وغاصت في تحولات المجتمع التونسي محذرة من عمق الخراب المقبل في حال الخمول والسلبية والاستسلام إلى الأمر الواقع وعدم السعي إلى إصلاح ما يمكن إصلاحه ...قبل فوات الآوان !

الموسيقى ملكة في «تونس الليل»
الموسيقى كانت هي الملكة في فيلم «تونس الليل»، هي الرابط الوحيد الذي يجمع أغلب أفراد الأسرة باستثناء الابن المتدين. وما بين أب يعشق الموسيقى الراقية ويعتمد عليها في برنامجه الإذاعي وابنة تجيد الغناء وتهرب إلى الموسيقى كملجإ آمن من هزات الحياة وأم تهرع إلى الموسيقى كمتنفس كعلاج من مرضها العضال ...حضرت الموسيقى بقوة في الفيلم كما تفادى المخرج إلياس بكار استخدام الموسيقى التصويرية التقليدية مقابل توظيف الموسيقى الصادرة من داخل الحدث.
 إن كان فيلم «تونس الليل» اجتماعيا بامتياز وأحيانا قاتما وسوداويا في نقل تفاصيل حياة أسره تتقاذفها الأقدار وتتنازعها الرغبات والمكبلات... فإنه لم يخل من شاعرية متدفقة في المشهد والنص وأيضا من قراءة سوسيولوجية عميقة لباطن الشخصيات المتألمة والمهزومة والمتناقضة ولمعاني الوجود والحياة.

حضور موّفق وأداء مقنع
 في «تونس الليل» برع رؤوف بن عمر في أداء شخصية المذيع يوسف وهو العائد إلى الشاشة الكبيرة بعد حوالي 10 سنوات من الغياب. كما كان حضور الممثلة آمال الهذيلي في دور الأم آمال أنيقا بعد زمن من التخلف عن شاشة السينما .أيضا أبدعت الممثلة أميرة الشبلي في تقمص دور عزيزة بكل تعقيداته وصراعاته وضياعه...وفي هذا السياق يقول المخرج إلياس بكار عن اختيار شخصيات الفيلم: «في اختيار شخصية «يوسف» بحثت عن الأناقة و«الريشة»، التي لم تعد موجودة كثيرا وأعتقد أن المواصفات المطلوبة لا توجد تقريبا إلا في الممثل الكبير رؤوف بن عمر الذي اعتبره غير محظوظ في السينما التونسية رغم تقديمه لعديد الأدوار ...كذلك اعتبر حلمي الدريدي ممثلا جيدا أتقن دوره كما تعد أميرة شبلي مفاجأة بالنسبة لي وغيرت كثيرا في دورها ومنحته من تصوّرها. ومنذ البداية كان الترشيح لآمال الهذيلي ولكن لم أعتقد أن توافق على العودة للسينما خاصة وأنها رفضت عديد السيناريوهات فكتبت متخيلا «آمال» كشخصية وستتقمصه ممثلة أخرى وكان نموذجا في كتابة السيناريو.
ولم أندم على خيارات فيلمي ويشرفني التعامل معهم خاصة أنني حرصت على أن تكون كل الأدوار لها بصمتها ومع ممثلين لهم حضور وموهبة حتى بالنسبة للأدوار الثانوية أو الحضور الشرفي على غرار المنصف الأزعر ومنيرة الزكراوي وعبد الحميد قياس...».
إن كان «السيناريو بمثابة حلم تراه بمفردك، والفيلم حلم يراه الجميع»... فلا شك أن أبواب الحلم والخيال والنقد والتحليل مفتوحة في «تونس الليل».

ملخص «تونس الليل»
بعد أكثر من عقدين من الزمن في خدمة الإذاعة الوطنية التونسية يستعد يوسف للتقاعد وخلال عرضه الأخير لــ «تونس الليل» ينقطع البث بسبب التلميح إلى حادثة البوعزيزي في حين تلتجئ زوجته آمال للصلاة ويحاول ابنه أمين لملمة جراح العائلة وإعادة تماسكها، تقطع عزيزة ابنته الصغرى شرايينها بعد خيبات أمل متتالية وذلك نتيجة عيشها في انفصال كلي عن إيقاع وقيم عائلتها.
ثائر في صمت، يلتجئ يوسف للحانة المحاذية لمقر الإذاعة والتي كان يتردد عليها يوميا...يعتزل يوسف عائلته وتبتلعه المدينة التي لم يعد يعرفها.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115