روبورتاج: على هامش ترشيحها إلى قائمة التراث العالمي «مائدة يوغرطة»... قلعة فريدة فوق القمّة الشمّاء تلامس السماء

في خيلاء وكبرياء وغموض ساحر تلوح «مائدة يوغرطة» من بعيد كالقلعة المنيعة الملتفة حول ذاكرتها وكالحصن الحصين المطوّق لأسراره ... في شموخ وصمود يتحدى هذا المعلم الفريد من نوعه الزمان والنسيان، وهو المعلّق ما بين الأرض والسماء. فتسكنك رغبة جارفة في اكتشاف المكان ويسيطر عليك إحساس لا يقاوم في الصعود إلى هناك، إلى أعالي «مائدة يوغرطة»

بحثا عن لغز دفين وسرّ مجهول ...لكنها أبدا لم تكن رحلة سهلة بل كانت مغامرة شيقة في اتبّاع السلم الصخري الضيق والعسير ليهون الجهد ويزول التعب بمجرد الوصول إلى القمّة لتترك الأرض تحتك وتصبح أقرب ما يكون إلى السماء !

«المغرب»: ليلى بورقعة (قلعة السنان)
ما بين الجغرافيا والتاريخ تستمد «مائدة يوغرطة» خصوصيتها البيولوجية وفرادتها الحضارية لتستحق أن تكون واحدة من أهم عجائب تونس الطبيعية ولتستوجب التسجيل ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي بعد طول إهمال ونسيان.

«مائدة يوغرطة» على لائحة التراث العالمي
على ارتفاع أكثر من 1170 مترا عن سطح الأرض، ومساحة تمتد لـ 80 هكتارا تتربع «مائدة يوغرطة» على عرش المكان والزمان على شكل طاولة مستديرة ومن هنا اتخذت تسمية «مائدة». واقترنت باسم «يوغرطة» نسبة إلى قائد مملكة نوميديا الذّي احتمى بهذه الصخرة طيلة عام من قبضة الرومان. وعبر التاريخ ظلت «مائدة يوغرطة» ملجأ المقاتلين والثائرين للاحتماء والاختباء وهي العصيّة على الخيول والجيوش. وقد وصفت في كتاب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» لابن فضل الله العمري كما يلي:

«وبالقرب منها على مسيرة يوم قلعة سنان وهي قصر لا يعرف على وجه الأرض أحصن منه على رأس جبل منقطع عن سائر الجبال، ليس في رأسها ماء إلا المطر، بها خمس مواجل نقش في حجر، وهو جبل يقصر سهم العقار عن الوصول إليه، ويرتقي إليها من سلم نقر في حجر طوله مائة وتسعون درجة، بأسفلها قصبة بها عين ماء، وبها فواكه وثمار».
واستثمارا لخصوصياتها الطبيعية وأبعادها الحضارية ووظائفها التاريخية كان ترشيح «مائدة يوغرطة» للتسجيل ضمن لائحة التراث العالمي.وفي هذا السياق أشرف وزير الشؤون الثقافية محمد زين العابدين يوم السبت 9 سبتمبر 2017 رفقة كل من وزيرة السياحة والصناعات التقليدية سلمى اللومي ووزيرة الشباب والرياضة ماجدولين الشارني وسفير تونس لدى اليونسكو غازي الغرايري ومديرة إدارة الثقافة وحماية التراث في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم حياة قطاط... على تظاهرة ثقافية وفنية انتظمت بمائدة يوغرطة بقلعة سنان من أجل نفض غبار النسيان عن المكان والتعريف بملف تسجيل المائدة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي. وقد انطلقت وزارة الشؤون الثقافية في إعداد الملف العلمي لإدراج مائدة يوغرطة على القائمة التمهيدية للتراث العالمي لليونسكو ضمن خطة عمل تقوم على مبدأ التشاركية بين كل الأطراف الفاعلة في مجال الثقافة والتراث والبحث العلمي.
وقد لقيت هذه البادرة ترحاب أهالي الكاف خصوصا أبناء «قلعة سنان» تلك القرية التي ورثت ذاكرة المكان والزمان وصدحت طويلا بضرورة تثمين «مائدة يوغرطة» وانتشالها من التجاهل والإهمال.

تاريخ... وأسرار
على مشهد عروض الفروسية والفنون الشعبية والحرف اليدوية وعلى إيقاع عرض موسيقي تراثي للفنان عبد الرحمان الشيخاوي وعرض موسيقي فرجوي للفنان حسان الدوس... اجتمع المسؤولون والضيوف وأهالي الكاف واختلط الزوّار التونسيون بالوفود الجزائرية وقد جمعت بينهم «مائدة يوغرطة».
من الأعلى تبدو الأرض في انبساط ممتد إلى حيث الأفق البعيد لتبدأ حياة أخرى فوق «مائدة يوغرطة» حيث لا تزال بقايا الجدران والحجارة وآثار خزانات المياه شاهدة على مرور الإنسان بالمكان ومكتنزة لأسرار خبأتها على مرّ الزمان عن جيوش يوغرطة وأبطال التاريخ وصناع الأساطير... ومن عجائب مائدة يوغرطة أنها تخفي عالما آخر لا يقل سحرا وغموضا تحت سطحها تترجمه المغاور والكهوف التي يقال إن النوميديين حفروها في الصخر لتخزين المؤن مستغلين التكييف الطبيعي فيها. كما توجد مغارات فسيحة للسكن والاحتماء من مخاطر الطبيعة وعوادي الدهر.
بعد تسجيل «مائدة يوغرطة» ضمن التراث العالمي تستعد تونس إلى إلحاق «شط الجريد» بتوزر و»القصور» بتطاوين بقائمة اليونسكو. وتجدر الإشارة إلى أنّ تونس قد أدرجت 12 موقعا على القائمة التمهيدية لليونسكو إلّا أنّها لم تسجّل أي موقع أو معلم منذ ما يزيد على 20 عاما! ويبقى السؤال هل ستوّدع «مائدة يوغرطة» شبح الإهمال والنسيان لتعانق عهدا جديدا من الإشعاع والحياة أم أنها ستعود إلى وحدتها وصمتها الرهيب بمجرد مغادرة الوزراء وانفضاض الزوار؟

وزير الشؤون الثقافية :
التسجيل في التراث العالمي ليس هدفا في حد ذاته
هل يكفي تسجيل المعالم والمواقع في قائمة اليونسكو للتراث العالمي ليكون لها إشعاع أكبر وانخراط في المنوال التنموي؟ في هذا السياق يقول وزير الشؤون الثقافية محمد زين العابدين : «التسجيل في قائمة التراث العالمي مهما كانت قيمته الرمزية والثقافية ليس هدفا نهائيا في حدّ ذاته وإنما هو أداة تمكّننا من تحويل التراث إلى رافد أساسي من روافد التنمية الاقتصادية والبشرية في كامل جهات البلاد. وانطلاقا من هذا الوعي بقيمة الثروة التراثية المادية واللامادية لبلادنا فإننا بصدد وضع خطة وطنية جديدة وها نحن اليوم بصدد تنفيذها.
تستند الخطة الوطنية الجديدة إلى تصوّر يأخذ بعين الإعتبار قدرة هذا المخزون التراثي الهائل على إنتاج الثروة مع ضمان المحافظة عليه لفائدة الأجيال القادمة والحفاظ على التوازن البيئي والطبيعي للمجال.»

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115