Print this page

إقرأ: من سمات الحوار القرآني مع المعاندين -الجزء الثاني-

ولعل أولى سمات الحوار القرآني مع هذه الفئة هو استخدام الحكمة والموعظة الحسنة، وأسلوب التي هي أحسن في حوارهم, وهو الأصل العام في الدعوة إلى الله في القرآن الكريم, قال تعالى:  ادعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ والـمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ  (النحل: 125).

فالقرآن الكريم لم يخرج في دعوته الطغاة والمعاندين إلى الحق عن الأصل العام في دعوة الناس أجمعين, ولم يستثن هذه الفئة من المدعوين من سمة اللطف واللين في دعوة الآخرين؛ رغم ما تنطوي عليه هذه الفئة من الناس من عناد واضح, وتعال ومكابرة على الحق ظاهرة, وإضمار الشر لأهله وأتباعه.

إن من يستقرئ آيات دعوة نبي الله موسى -عليه السلام- لأشد الطغاة، وأكثر المعاندين للحق, يمكنه ملاحظة عدم حدوث أي تغير في أسلوب الدعوة, أو طريقة عرض الحق بالكلمة الطيبة واللين، فإذا كانت بداية دعوة نبي الله موسى -عليه السلام- لفرعون كما وصف الله:  اذهَبَا إِلَى فِرعَونَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَولًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشَى  (طه: 43 - 44).

إن من يتابع هذا الحوار مع أشد المعاندين للحق والطغاة المتكبرين على وجه الأرض فرعون, يمكنه ملاحظة أن أسلوب اللين والحرص على إيمان المدعو لم يطرأ عليه أي تغيير, رغم إظهار فرعون بوادر العناد، وأمارات التعالي على الحق, بل ومواجهته ومقارعته:  قَالَ فِرعَونُ ومَا رَبُّ العَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ ومَا بَينَهُمَا إِن كُنتُم مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَن حَولَهُ أَلَا تَستَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُم ورَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرسِلَ إِلَيكُم لَمَجنُونٌ * قَالَ رَبُّ الـمَشرِقِ والـمَغرِبِ ومَا بَينَهُمَا إِن كُنتُم تَعقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذتَ إِلَهًا

غَيرِي لَأَجعَلَنَّكَ مِن المـَسجُونِينَ * قَالَ أَوَلَو جِئتُكَ بِشَيءٍ مُبِينٍ  (الشعراء: 23 - 30).

بل لم يقابل تهديد فرعون باستخدام العنف والبطش ضد نبي الله وأتباعه بالمثل, بل كان ترك الظالم وهجره هو غاية ردة فعل موسى وأتباعه:  فأُلقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وهَارُونَ * قَالَ آمَنتُم لَهُ قَبلَ أَن آذَنَ لَكُم إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحرَ فَلَسَوفَ تَعلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيدِيَكُم وأَرجُلَكُم مِن خِلَافٍ ولَأُصَلِّبَنَّكُم أَجمَعِينَ * قَالُوا لَا ضَيرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * إِنَّا نَطمَعُ أَن يَغفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الـمُؤمِنِينَ * وَأَوحَينَا إِلَى مُوسَى أَن أَسرِ بِعِبـ َادِي إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ  (الشعراء: 46 - 52).

والحقيقة أن العذاب والهلاك لم ينزل بالمعاندين والطغاة والمتكبرين على الحق إلا بعد وصول عنادهم إلى مرحلة إرادة إفناء وإهلاك المؤمنين, في محاولة لوأد كلمة الحق في مهدها, وهو ما حل بفرعون وجنوده عند ملاحقتهم موسى وبني إسرائيل:  وأَوحَينَا إِلَى مُوسَى أَن أَسرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ * فَأَرسَلَ فِرعَونُ فِي الـمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وإِنَّهُم لَنَا لَغَائِظُونَ... فَأَتبَعُوهُم مُشرِقِينَ فلَمَّا تَرَاءَى الجَمعَانِ قَالَ أَصحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهدِينِ * فَأَوحَينَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضرِب بِعَصَاكَ البَحرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرقٍ كَالطَّودِ العَظِيمِ * وأَزلَفنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وأَنجَينَا مُوسَى ومَن مَعَهُ أَجمَعِينَ * ثُمَّ أَغرَقنَا الآخَرِين (الشعراء: 52 - 66).

المشاركة في هذا المقال