في الذكرى الأولى لوفاة فقيد تونس أخي الشاعر أولاد أحمد

شعر: منصف المزغني

(1)
مُحَمَّدْ
أُعَدٍّدْ
على مسْمعِكْ
مشاعرَ في هذه اللحظةِ الخاسِرةْ :
« أحبُّكَ ،
أنتَ : أخي،
أُمُّنَا : تونسُ الساخِرةْ ».

(2)
وَقَفْنا
قَرِيبَيْن
في سَنَوَاتِ الْوِلاَدَةْ.
جلسْنا
بعيديْن
قُربَ سؤالٍ
يَزُمُّ الشِّفَاهْ:
وَكَانَ السؤالْ
«تُرَى مَنْ سَيَرْثِي أَخَاهْ؟»
إِلَى أنْ
شَدَدْتَ الرِّحَالْ.

(3)
مُحَمَّدْ
مضى زمنٌ
كم حَبَوْنَا به وكَبَوْنا
مَشَيْنَا فرحنا،
جَرَيْنَا انشرحنا،
سَمَعْنَا، أَطَعْنَا،
عرَفْنا ، رَفَعْنَا العَلَمْ
إلى العِلْمِ جُعْنا
رفعْنا الْقَلَمْ
أَشَرْنَا لِحُكْمٍ رئيسٍ ظَلَمْ
عدَوْنا إِلَى أَنْ
وَصَلْنَا
إِلَى الحبسِ يَوْمًا
ومرَّتْ ليالي المِحَنْ
وجاءَ زمَنْ
وصار الحبيسْ
يحبّ الرئيسَ الْحَبِيبَ زعيمَ الوطنْ

(4)
مُحَمَّدْ
أَتَذْكُرُ عَهْدَ الرَّئِيسِ المنوَّرِ
فَاتحَ مدرسةِ (العلمُ نورْ )
وشرَّعَ حظَّ الإناثِ من العِلْمِ مِثْلَ الذكورْ
أتدْري
بأنّ نِساءً قرأْنكَ
ثُمَّ حبَبْنَكَ
ثمَّ أخذْنَ من الشغلِ يَوْمَ إجازةْ
ليحضُرْن طقْسَ الجنازةْ ؟

(5)
محمّد
وَمُنْذُ الْبِدَايَةِ كنّا:
أنا كُنْتُ أُخْفِي الْحَنِينَ
وَتُخْفِي الْحَنَانَ
الذي في الجنانِ بِغَيْرِ لِسَانْ
وَنَغْرَقُ
نطفو هُنَا
مِنْ صَفَاقُسْ
لِسِيدِي بُوزِيدْ.
( ولا بحْرَ
في القَيْروانْ )

(6)
اتَّفَقْنَا على ما يَلِي :
الْكِتَابَةُ :
بنتُ الْكَآبَةِ
ضِدَّ الْكِآبَةْ
وَ خيْطُ النسيمِ
بِثَوْبِ الرَّبَابَةْ
وشرطةُ جَلْبِ الحبيبِ
لِحضْنِ الحبيبِ
إذا الحبّ غابَا
وبرقيّةُ الشعبِ في شارعٍ
دونما ميكروفون خطابة
وإحياءُ روح الأنوثة عند الرجولة

(7)
وأنّ
القصيدة بنتٌ أصيلة
بغير أُمومةِ أيّ نقابةْ
ودون أبوّةِ حزبٍ
فَمَا دَخَلَ الشِّعْرُ لِلْحِزْبِ
إِلاَّ
اغْتِصَابَا
و ما دَخَلَ الْحِزْبُ لِلشِّعْرِ
إِلاَّ انْتِسَابَا
مُحَمَّدْ
وَفِي الْحُبِّ شَكٌّ وَحَيْرَةْ
لِهَذَا
رَأَيْتُكَ خَارِجَ قَبْرِكَ
مُذْ أنزلوكْ .
- لماذا ؟
لَقَدْ رَفَعَتْكَ الْقُلُوبُ
عَلَى شَفَتَيْهَا
وَظَنِّي بِأَنَّكَ مُتَّ:
مُجَرَّدَ فِكْرَةْ.

(8)
( عَلَى فِكْرَةٍ
كَمْ تَمَنَّيْتُ قَبْرَكَ مَكْتَبَةً ،
حَوْلَهَا مَسْرَحٌ
حَوْلَهُ رَوْضَةٌ،
في مياهٍ تدورْ
وسربُ طُيورْ
وَإِلاَّ لماذا الْقُبُورْ ؟
لَنَا كُتُبٌ لاَ تَبُورْ )

(9)
مُحَمَّدْ
أتذْكُرْ
أَوَّلَ ذِكْرَى هُنَالِكَ فِي
«الرَّأْيِ»
نَنْشُرُ شِعْرَا
وَ»عِنْدَ الزُّنُوجْ»
هنالك ساريةٌ وصنوجْ
مَوَاعِيدُ قَهْوَتِنَا فِي الصَّبَاحْ
وأمرٌ جليلٌ،
ونقدٌ وخبرةْ
وَبَعْدَ الظَّهِيرَةِ
شعرُ جميلٌ
وإيقاعُ خمرةْ

(10)
- أتَذْكُرُ تلك الفتاةْ الرفيقةَ ؟
وهي تُحبُّ اليسارْ
تجيءُ من القمحِ والشِيحِ للعاصمةْ
تُطِلُّ بكأسيْن اثْنَيْن بين اليديْنِ :
وكُلَّ مَسَاءٍ تَحُطّْ
و» عند الزنوج « تنطّْ
وكانت تُحِبُّ مِنَ الشَّعراء قصيدًا
فَقَطْ

(11)
أتذْكُرُ
حانةَ « عندالزُّنُوجِ «
غَدَتْ مصرفًا
بَعْدَ معركةٍٍ فازََ فيها اللصوصُ
الحيارَى
على الشُّعَرَاءِ
السكارَى
فقد سرقوا مُتْحفَ الأمنياتِ
ومّستَوْدَعَ اللحظات الجميلة
وباسمِ الحضارةْ
تأكّدْ ،
غدًا ،
يا مُحَمَّدْ
سنربحُ شكوى
لتعويضِِ هذي الخسارةْ

(12)
وفي «اللونيفارْ»
هُنَالِكَ شَخْصٌ عَبُوسٌ
طَوِيلُ الْجُلُوسْ
يَعُسُّ بـِ«عِنْدَ الزُّنُوجِ» عَلَى أَرْبَعَةْ:
- عَلَى
الْحِزْبِ فِي دَوْلَةٍ
- وَعَلَى
الشَّعْبِ فِي شُعْبَةٍ
- وَعَلَى
الْكَبْشِ فِي قُبَّةِ الْبَرْلْمَانِ
- أخيرًا
على الْقَلَمِ الْمُتَصَعْلِكِ
فَوْقَ جَرِيدَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ
الَّتِي تَتَوَزَّعُ فِي الْجُمُعةْ .

(13)
و عِشْنَا مَعًا في
صَفَاءٍ تَكَدَّرَ
بَعْدَ سؤالِ الصَّحَافَةِ
عَنْ سبَبٍ لِلْخُصُومَةْ؟
وَكَانَ الْكَلاَمُ
عَلَى ذَبْذَبَاتِ النَّمِيمَةْ
وسكّينةً فِي وليمَةْ
وَلاَ بدّ مِنْ سبَبٍ لِيكون خصامَا
معارضةٌ دون حقِّ الكَلاَمْ
فَلاَ بُدَّ مِنْ شَاعِرَيْنِ عَدُوَّيْنِ
كَيْ لا تنام الْحَيَاةُ تمامَا .

(14)
مُحَمَّدُ
ما بَيْنَنَا لا يُقيمُ القيامَةْ ؟
لَقَدْ خَنْدقوكَ يسارًا
وقد فَنْدقوني يميناً
- سُدًى فِي سُدًى يَا مُحَمَّدْ
ونحنُ اجتمعنا على موعدٍ
والتفَفْنا على موقدٍ
فيه نار الأدبْ
لصَهْر غصونِ الذهبْ
وإحراقِ بيت الكلام الحطبْ

(15)
- وكان لنا «بَيْتُ شِعْرٍ» مكانْ
سكنتَهُ ،
ثمَّ سكنتُهُ
إنَّا تركنا المكانْ
ولكننا
ما تركنا المكانة
وكمْ كان بيتًا بلا سقفِ مال ْ
وَصارَ السُّؤَالْ :
ألَيْسَ العدوُّ الحقيقي
قصيدًا
قَصيًّا
عَصِيَّ المقالْ ؟

(16)
-مُحَمَّدْ
أبا نَاظمٍ
وابا كَلِمَاتٍْ
وَزَوْجَ زُهُورِ الْوَفِيَّةْ
صَدَقْتَ فَقٍَدْ
« دَمَّرْتَنَا الْمَدِينَةُ» :
وفِيهَا تدهْوَرَ فنُّ النكَدْ :
ألَمْ تَر كيف ذئابُ المدينةِ قَدْ حسدوك
عَلَى الذِّئْبِ فِي
الْجِسْمِ يَذْوِي
وَكَمْ كُنْتَ تَدْرِي
بِمَنْ كَذَّبُوا الذِّئْبَ فِي رِئَتَيْكَ

و مَنْ صَارَ فِي دَاخِلِ الذِّئْبِ يَعْوِي
ويدعو بِصَوْتٍ إِلَى الرَبِّ
أَعْلَى عُوَاءً مِنَ الذِّئْبِ
أعلى مِنَ الطَّابِقِ التَّاسِعِ الْعَسْكَرِيِّ
وَالذِّئْبُ
يَعْدُو عَلَى صَهْوَةِ السَّرَطَانْ.

و كَانَ - مقارنةً - كَانَ
ذِئْبًا رَحِيمًا وَأَلْطَفَ مِنْ سُفَهَاءِ الزَّمَانْ
تمنّوا وَفَاتَكَ قَبْلَ الْوَفَاةْ،
وَدفنَكَ دونَ صَلاَةْ
وقد سَأَلُوا «نَاظِمًا» عَنْ حقيقةِ دينِك إثْر الوفاةْ
مخافةَ أن يجدوكَ بجَنَّاتِ عَدْنٍ
معَ الخمرِ والمُؤمناتْ .

(17)
هُمو حَسَدُوكَ عَلَى:
الذِّئْبِ وَالطِبِّ
وَالشِّعْرِ فِي الشَّعْبِ
والحبِّ في الكَرْبِ
وَالرَبّْ
آهٍ
وآهةْ

عرفنا الإِلَهَ
الَّذِي فِي سماءِ بِلاَدِي
وَقَدْ كَانَ أَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ سُورَةَ الشُّعَرَاءِ
عَرَفْنَاهُ ربًّا غَفُورًا
عَفُوًّا عَنِ الشُّعَرَاء الذين
شَيَاطِينُهُمْ تَتَبَاهَى
بِوَحْيِ الْكَلاَمِ الَّذِي يَتَنَاهَى
لِسَمْعِ الحسانْ

( وكلُّ النساءِ لدى الشُّعَرَاءِ حسانْ )
وقد كان رَبًّا حَلِيفًا مع الْفُقَرَاءِ إِلَيْهِ
عَرَفْنَاهُ حُرًّا طَلِيقًا
فصار سجينًا لدى السُّفَهَاء
بحزْبِ الخٍرافِ
وَ فَتْوى الخُرافةْ
لِنَزْعِ الخلافٍِِِ
وزرْعِ الخلافةْ .

(18)
عَرَفْنَاهُ ربًّا لشعبٍ
وأرحبَ من أيِّ حزْبٍ
عرفناه فَوْقَ سَمَاءِ بلادي
( كبدر الدجى في سماها)
بلادي الْوَحِيدَةِ
هذي الَّتِي لاَ بِلاَدَ سِوَاهَا

فما مِنْ بِلاَدٍ مُوَازِيَةٍ غَيْرٍ
تُونِسَ
الشعراءُ بها كَلِمَاتٌ
وَمَا الْكَلِمَاتُ سِوَى وَجْهِها وَقَفَاهَا .

(19)
مُحَمَّدْ
وبعدُ ،
أَتَذْكُرُ دَرْوِيشَ وَهْوَ يُعدّدْ :
«يُرِيدُونَنِي مَيِّتًا كَيْ يَقُولُوا :
لَقَدْ كَانَ مِنَّا وَكَانَ لَنَا»
نَعَمْ يَا مُحَمَّد
يُريدوننَا مَيِّتِينَا
لِكَيْ يُكْرِمُونَا

بأرض الجحود
وربَّ غدٍ يطبعونَ لنا صورةً
فوق وجه النقود
لكيْ يُقنِعوا الوُرَثاءَ
بِأَنَّا من الأثرياءِ
طوانا الثرى
ولكن لنا كلماتٌ تنيرُ الثريَّا
وقد يبعثونا

بُعيْدَ الْحَيَاةِ الْحَزِينَةْ
لِكَيْ يَنْشُرُونَا
عَلَى الحبْلِ
في
مِهْرَجَانِ الْمَدِينَةْ.

(20)
مُحَمَّدْ
سَأَحْتَاجُ جُرْعَةَ حُزْنٍ .
وأحملُ بالحرفِ ما أوجعَكْ
لِقبْرِكَ هذا الذي ودّعَكْ
غدًا سوف أكتبُ شعرًا
عَلَيْه تعلقُ :
«ما أرْوَعَكْ !»
ولا أُذْنَ لي غيرَ رُوحِي
لِكَيْ أسْمعَكْ

(21)
مُحَمَّدْ
أنا الآنَ نَحْياَ
وحيدًا
وَلَكِنْ
مَعَكْ .

ملاحظات وهوامش :
1 - قرأتُ هذاالقصيد أوّل مرة في أربعينية الشاعر محمد الصغير اولاد احمد التي نظمتها وزارة الثقافة يوم 17 ماي 2016 في قصر الموتمرات , وأجريتُ هنا تعديلات طفيفة وهذا النص هو ما قرأت في بيت الشعر يوم 18 جوان 2016 .
2 - وردتْ في القصيدة أسماء هي :
«ناظم « ابن الشاعر من السيدة عزيزة :و» كلمات « ابنته من زوجته الثانية: السيدة زهور.
3 - «عند الزنوج » Chez les nègres : مقهى كان في شارع باريس في العاصمة تونس ،وقد تحول الى مصرف بنكيّ, كان الطلاب والأدباء والسياسيون واليساريون يلتقون فيه كامل النهار وجزءًا من الليل .
4 - « لونيفار» « l'univers » (الكون ) : مقهى شهير تلتقي فيه جماعات يسارية وطلاب وفنانون في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة التونسية، وهو قائمٌ إلى اليوم .
5 - «الرأي» : اسم أوٌل جريدة معارضة علنية أيّام الحكم البورقيبي ( احتجبتْ ) كانتْ تصدر الخميس وتنام عند الرقابة أحيانا ، فلا تخرج الى القارىء الا يوم الجمعة ، وأشرفتُ في فترة من تاريخها على صفحتها الثقافية، وفي الوقت ذاته كان محمد الصغير اولاد احمد يشرف على صفحة الشباب.
6 - بيت الشعر التونسي: مؤسسة تعود بالنظر الى وزارة الثقافة ،نادى أولاد أحمد وعمل على تأسيسه ، و صار مديرا له ( 25- أكتوبر 1993 - 20 نوفمبر 1997 ) ثم توليتُ ادارته (21 نوفمبر 1997 - 18 جانفي 2012) . ميزانية البيت المالية لا تكادُ تذكرُ.
7 - الذئب هو السرطان بحسب تشبيه الشاعر اولاد احمد
8 - الطابق التاسع في المستشفى العسكريّ ، قسم الأمراض الصدرية حيث كان يتداوى الشاعر ولفظَ أنفاسه الأخيرة يوم 5 افريل 2016 .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115