مسرحية «حديث الجبال» للمخرج الهادي عباس بقاعة الفن الرابع: رُفضت من لجنة الشراءات لأنها مجّدت الكادحين واتٌهِمَت بالمس من هيبة الدولة

ماذا لو تحدث الجبل عن ساكنيه ومعاناتهم، لو نطق الجبل ورزح بمواجع من يسكنونه لاهتز عرش الرحمان من شدة قسوة ما يعانونه، لو تحدث الجبل عن معاناة جامعي الحطب؟ لو تكلم الجبل عمّا تعانيه تلك الشابة التي افنت شبابها في الدراسة ثم اكلت البطالة احلامها، لو وصف لكم الجبل معاناة

شاب درس لسنوات ولكن ضيم النظام حرمه من حقه في العمل والعيش الكريم، لو تأوّهت اشجار الجبل وحدثتكم عن معاناة من نسيتهم الدولة لسنوات وتركتهم يعانون التفقير والتهميش وحين تحتاجهم تداعب ذلك الخيط الرفيع خيط «الوطنية» فالوطنية للفقراء كما يقولون.
عن الظلم والضيم، عن المراة الكادحة عن الشباب فاقد الامل في الدولة؟، عن الجندي المرابط في الجبل «اللي عايشين لينا ولا ريف ولا مدينة لولا عرق أيديه، ويذوبوا كالشمعة ويخبيّو الدمعة على عيون أهاليهم، الناس اللي تعاني.. ونساتهم الأغاني» اهدى مركز الفنون الركحية والدرامية بقفصة عمله الجديد «حديث الجبال» عن نص للطاهر رضواني اخراج الهادي عباس وتمثيل دليلة المفتاحي وايمان مماش ومحمد السعيدي وحسن ربح ولسعد حمدة.

«إنتَ عندك ثقة في الدولة؟ .. نا ماعنديش!؟»
11عشرة حجارة وضعت على الركح، منذ الوهلة الاولى يشعر المتفرج ان الاحداث ستدور في الجبل، آلة العود الرقيقة تبعث في المكان موسيقى هادئة حزينة تدفعك للسؤال هل ستكون الاحداث حزينة كما هذه الموسيقى؟، امرأة منحنية الظهر، ثقيلة الحركة تتحرك ببطء تجمع الحطب الى جانبها فتاة شابة منتصبة الهامة تساعدها، ذاك المشهد الأول، تنسحب المراة ينطفئ الضوء ثم يجد المتفرج نفسه أمام عاشقين... ضو «محمد السعيدي» و زهرة «ايمان مماش» يتحادثان عن الحب ومن قصة حبهما وموسيقى العود الرقيقة تبدأ الحكاية والأحداث الموجعة، حديث عن البطالة عن سنوات العمر المهدورة في الدراسة، عن المناظرات التي يشارك بها الالاف عن قصص الحب المقموعة بسبب الفقر.

وسط الجلسة تقول زهرة لحبيبها «نا ماعنديش امل في الدولة؟» وهل هناك من الشباب من له امل في الدولة التي تترك الجامعي على رصيف البطالة وتشغل من طرد من «الكتّاب» فقط لأنها تهابه لأنه سيحرق ويحطم ويخلق الفوضى؟ «الدولة الي تخدمك انت خاطر تخاف منك تحرق وتخليني بطال ماهاش دولة؟ الدولة التي تحرمني من حقي في الشغل ليست بدولة، الدولة التي تحرمني من الحب ليست دولة، الدولة التي تحرمني من انسانيتي ليست دولة» كما يقول «ضو» في المسرحية وهو استاذ فلسفة قضى سنوات عمره في الدراسة وتحصل على جميع الشهائد العلمية ولأنه فقير حرم من حقه في العمل بينما اترابه ممن انقطعوا عن الدراسة باكرا أي منذ المدرسة الابتدائية يشتغلون، في حديث «ضو» وتلك الحرقة والوجيعة وجيعة آلاف المعطلين عن العمل، حرقة شباب درس ليجد نفسه مجرد رقم في وطنه.

هل هناك من يملك الامل في دولة تدفع بأبنائها لليأس والموت اما في الجبل أو في البحر او يحرقوا انفسهم ببنزين البطالة والظلم والضيم؟ هل هناك من يثق بالدولة التي تضع المناظرات سنويا ليشارك فيها الالاف وتقبل اثنين معروفين منذ البداية؟ «نا ماعنديش ثقة في الدولة ويما ثانا، وكيف اثق بالدولة وقد تخرجت منذ خمسة اعوام وعوض ان اباشر مهمة التدريس عدت الى جمع الحطب معها» كما تقول زهرة مخاطبة حبيبها.

في مسرحية حديث الجبال نقد لسياسة التمييز التي تنتهجها الدولة تجاه ابنائها، فضو ذاك الشاب الهادئ المثقف سئم البطالة حد اليأس فاختار طريق الجبل، سهل استقطابه ليتحول الى وحش قاتل يرى الاخر كافرا زنديقا وجب قتله، ضو «كان يحب الحياة» ولما اولته ظهرها اختار طريق الموت، البعض قد يقول انه تبييض للإرهاب ولكن حين يشاهد مشهدية لقاءه مع حبيبته السابقة وحديثها وسؤالها اياه « موش حل كل واحد يفد يولي ارهابي، لازم نكملو حلمتنا» تأكيد ان العمل فقط عرج على موضوع واقعي يعرفه المشاهد جيدا.

حين يصبح المواطن دولة تواجه الدولة
في «حديث الجبال» موسيقى حزينة حزن ساكني الجبل، نص موجع وجيعة المهمشين في ارجاء الوطن، ضوء خافت كحظهم في وطنهم، فضاء العرض فضاءات لان العمل ينفتح على كل التونسيين المنسيين دون استثناء، في «حديث الجبال» للجبل رمزيته فهو الشاهد على آلامه وحافظ حكاياتهم ومن شموخه استمدوا بعض القوة ليواصلوا، لموسيقى الامجد بلحسن تأثيرها في المتفرج لانها تفتت الروح وتبكيك حتما اما انارة رمزي النبيلي فكأنها نبش داخلك للبحث عن آلامك وإخراجها للمشاهد دون زينة.

في حديث الجبال حديث عن المواطن الدولة ودولة المواطن، في المسرحية يصبح المهمشين دولة مستقلة، فهم يعملون يكدون فقط يبحثون عن سبل العيش لا علاقة لهم بالكيان المسمى «الدولة»، كذلك الدولة متناسية اياهم لا تبحث في طلباتهم ولا نواقصهم ولكنها تتذكرهم وقت الشدة، ففي حديث الجبال تستحق الدولة «خالتي هنية» حتى تمسك بأحد الإرهابيين وتريد منها ان تقدم ابنتها زهرة طعما، ويخبرها الكولونيل ان «خالتي هنية رئيس الجمهورية يبلغك السلام ويعرف انك مناضلة ويعرف انك ستوافقين».

حينها تقطع المرأة كلامه وتقول « رئيس الدولة يعرفني؟ يعرف ان هنية قضت عمرها في جمع الحطب؟ رئيس دولتكم يعرف ان زهرة متخرجة منذ 5اعوام وتجمع الحطب معي؟ رئيس دولتكم يعرف اننا نعيش في كوخ تحت الجبل؟ رئيس دولتكم يعرف جنات وحسنات إللّي هزهم الواد؟ رئيس الدولة متاعكم يعرفنا وقت الشدة وينسانا وقت الرخاء؟ مانيش موافقة» مقطع صفق له جمهور الفن الرابع، ولكن يبدو انه اثار حفيظة البعض لان العمل لم يتحصل على موافقة ادارة المسرح واعتبر احد اعضاء لجنة الشراءات ان في هذه الجملة مس من هيبة الدولة؟ فهل نقد الواقع في عمل مسرحي يمس من هيبة الدولة؟ وأين هيبة المسرح من هذا؟ اليس المسرح بابا للنقد ولفضح الفساد والممارسات التعسفية؟ أم أن الحقيقة حين تقدم على الركح تصبح مسا من هيبة الدولة؟ وهل يعقل ان يرفض عمل لجملة يتيمة او جملتان

عبرتا عن واقع نعيشه ونعايشه وتتحدث عنه كل القنوات التلفزية؟ اهي عودة الى الصنصرة؟ .

أيعلم من كتب تقريرا سلبيا في المسرحية أنه ثمة تونسيون يعيشون تحت الجبل دون بطاقة تعريف وطنية؟ ايعلم ان هناك آلاف التونسيين يعيشون الجوع والفقر ويعانون البرد والقيض؟ ايعلم ان جامعات الحطب في سمامة حياتهن مهددة يوميا ولكن يدخلن الجبل لأنه مصدر قوتهن الوحيد؟ ايعلم من كتب ان «المسرحية تمس من هيبة الدولة» أن هناك أطفال تونسيون حلمهم اقتناء حذاء رياضي؟ وآخرون يحلمون بجوارب تحميهم برد الشتاء الموجع؟ أيعلم أن هناك من التونسيين من يعيش على وجبة يتيمة طيلة اليوم ويكتفون اما بالغذاء او العشاء؟ ايعلم ان التونسيات يعملن من الخامسة صباحا الى الخامسة مساءا مقابل خمسة دنانير في الارياف؟ ايعلم ان ماقدم على الركح ليس الا نقطة من بحر معاناة من يسكنون الجبال والارياف؟.

ولم اكتفى من رفض العمل بمشهد نقدي يتيم وتناسى كل المشاهد التي يتحدث فيها العمل عن تضحية الكادحات، عن الام التي تضحي بابنتها من اجل وطنها، عن الجندي المدافع عن تونس وزوجته على فراش الموت؟.

يا جبل هز راسك... هز راسك يا عسكري
لأنهم جنود الوطن ولأنهم الاصدق ولأنهم رمز التضحية كرّمهم عمل «حديث الجبال»، جنود الوطن حماة المواطنين الذين يتركون عائلاتهم ويذهبون الى الجبل لا يعرفون هل سيعودون احياء أم مكفنين في العلم، على الركح شاهد الجمهور مقطعا أكثر من موجع، حديث جندي عن زوجته التي تركها على فراش الموت وهو الممزق بين نداء الوطن ونداء الحبيبة، موسيقى موجعة تفتت النفس، ضوء خافت وكأنه تعبيرة عن مناجاة الجندي لحبيبته صورة عن معاناة جنود الوطن صورة عمن يضحون بأرواحهم لافتداء تونس، صورة عن شهداء تونس من العسكريين، اولئك المرابطين لحماية الوطن لهم السلام لأنهم كسبوا ثقة المواطن «ها بنتي تخاف علي من عسكري؟» سؤال انكاري تتوجه به الام الى ابنتها للاشارة عن الثقة بين المواطن والعسكري.

والى الجبل الذي سكنه الظلاميون تقول خالتي هنية «هز رأسك خليك عالي شامخ، عارفتك متكدر مهموم.. عارفتك تحب تنفض الغربان، بعد ايام العز وطأتك اقدام الغادرين، يا جبل هز راسك» مقطع مؤثر ابدعت في تقديمه الفنانة دليلة المفتاحي.

«حديث الجبال» أو حديث الكادحين والجنود الصادقين، حديث التونسيين المنسيين، حديث المفقرين والمهمشين حديث اولئك الصامتين المكتفين بالعمل وسرقة بعض لحظات من الحياة، مسرحية تعرض للمرة الثانية امام اللجنة فهل سيتم اقتناؤها؟ ام سيتم تجاهلها؟ كما تتجاهل الدولة مهمشيها؟.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115