قراءة في مسرحية «مجنون» للمسرح الوطني: «القطيعة والرحيل... «مجنون» جبران /الجبالي»

‫(...) «شيء يطل من هذي الذرى، أحتاج دمع الأنبياء لكي أرى،

‫النص للعراف و التأويل لي» ...
حاصرني هذا البيت من قصيدة «ما لم تقله زرقاء اليمامة» للشاعر محمد عبد الباري ، و انا أعود إلى اليابسة بهدوء... وأنا أنزل بهدوء من عوالم جبران خليل جبران و توفيق الجبالي إلى عالم الإنطباع والتأويل و..الحفريات المعرفية والجمالية.. لا يمكن أن تمر هذه القيامة الجمالية دون محاسبة...

‫انطلق من شيء مما قالته زرقاء اليمامة لي: الجنون هو طلاق اتصالي لا غير و موقف محمل بباقة من أرفع أنواع الحلم. ..من العالم و قضاياه. ..المجنون /النبي /الحالم /الفنان /الثائر /القاتل /المستبد /المحب هو واحد أحد. ..ذات واعية بالعالم رافضة لواقعها راحلة إلى عوالم مبتدعة. ...تغمرها. ..تجربة عاطفية شخصية. ....

توفيق الجبالي لا زال راحلا منذ فجر الزمن وقطرات الندى في تلك الصباحات القادمة من غابات الغريب والعجائبي.. كلما ازداد رحيلا... كلما ازداد قطيعة مع كل ما يحيط به...
كلما زادت عزلته... كلما أورق إبداعه ولون العالم بألوان تفند أطروحة قوس قزح. ...

المجنون هو المنتج أيضا -بدون إنقطاع - للغة عجيبة قادرة على تحميل كل المعاني المترهلة بمعان أخرى أكثر لمعانا و كثافة جمالية. ...

جبران يحمّل لغة عصره ما لا تحتمله و يعطيها الخصب ... توفيق الجبالي يشعل حريقا معرفيا وجماليا تمتد ألسنته إلى حصاد الجيران. ..كل ما تكدّس من تجارب متراكمة عجزت عن التجاسر على نفسها ومساءلة نشأتها و خطى طريقها. ..الجبالي ككل مرة يحرج الجميع. ..الكتابة ما بعد الدرامية و الممثل ما بعد الدرامي والمسرح المنقلب على بطاقة هويته. ..كل شيء مرتب على النحو الذي لا تنتظره. ..الإضاءة ..قدم تارة وصوت تارة أخرى. ..الممثلون مجردون من دهون التاريخ الشخصي، يؤدون دورا جماليا لا غير. ..يستحيلون نصا. . صوتا. ..رائحة. ..أو فواصل توضيبية للإنتقال من عمق إلى عمق أعمق و أعمق. ...كيف تضع «المجنون» لجبران خليل جبران ورهانات الكتابة الرومانسية المثقلة بسياقات عصرها على خشبة المسرح ومن أي باب تلج عوالم الكتابة البصرية لتوفيق الجبالي..؟ من يتربص بمن؟ الممثلون ، الكاتب ، المخرج ؟ أم المشاهد الخاضع لاستفزاز لا يطاق في مسلماته و عقيدته الفنية.. جنون النص جدده المسرح الحي ،الذي يتنفس هواء عصره وتورط معه -ذهنيا- مخرج لا يقل جنونا لا عنه ولا عن كاتبه... بمعنى القطيعة والرحيل الأبدي اللامتناهي. ...

نعم، هلوسات المجنون الداخلية والأصوات الغريبة والصور التي تملأ وعيه و مخاوفه و امنياته قابلة للتحويل إلى هرمنة ايقاعية و صورية و لحنية. . بصرية. ..رائعة.... المسرحية دعوة محترمة لتحسس اللامحسوس و لتعقل اللّامعقول. ..
‫كل عناصر العرض في حالة تحول مستمر وصوت المخرج من خارج الزمن المسرحي و نطاقه يخاتلك و يدخل فيك الشك كلما تهيأت لطمأنينة ولو عجالية. ...صلب العرض... حتى الاتجاهات تفقد معناها التقليدي...فهل جلست القارئات، هل التحمن بالأرض عندما استلقين... هل انفصلت قدم الممثلة. ...؟ هل المجنون أحد الشخوص أم كلهم قد يمثلون أحد أطيافه؟... رغم كل العوالم المستثارة سينوغرافيا يبقى للجسد إعجازه الرائع داخل هيكلة العرض... مرة أخرى يعيد توفيق الجبالي تربيتنا بتحريضنا العلني على تحسس

الإنطباع...وتحريضنا على الرتيب و التوافقي والمعتدل... «المجنون» هي مسرحية ذات خطاب قصووي لا مهادنة فيها... وهي بمثابة إعلان حرب على منهج الراهبات «العذري» في ممارسة الفعل الفني والمسرحي...
‫هي قطيعة ورحيل عن دين الآباء المستبدين. ...

عياض الشواشي (هاوي.. مسرح)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115