قاعة الريو: المسرحية التونسية السويسرية «كم من بحار بيننا» أيعقل أن يرميَ بنفسه في فوهة الموت من يعشق الحياة ..؟»

على الرغم من كوننا على ضفتي البحر، هل نتقاسمه؟ هل يمتّن البحر صلتنا أم يفرقنا؟ ذاك الأزرق الكبير؟ أهو قبر الحالمين ام وسيلة نجاتهم.؟ اسئلة البحر والحدود جميعها تطرح في مسرحية «كم بحار بيننا»، عمل تونسي سويسري نص بغدادي عون من تونس و رولان مارك من باريس

في المسرحية يعايش المتفرج العديد من الأحداث والوقائع ينطلق بغرق تونسي يحلم بالهجرة، الى احمق مجنون يريد أن يرشد البشرية فمفاجأة رجل اعمال يعاني من أحكام مسبقة عن الشرق إلى معاناة تاجر تونسي واضطراره لإغلاق محله للاشتباه به في الارهاب فقط لأنه عربي، ثم عزلة في جبال الألب مع اخر يبحث عن اللجوء الى حين اقتسام لحظات حزن شقيقة طارق التي لم تتمكن من دفن شقيقها المسلم دفنا لائقا فجلسات ونقاش عن الجنوب والشرق في احد الشواطئ التونسية الى حين مشاهدة قصة حب بين تونسي وسويسرية يقتسمان لحظات حب مسروقة امام صرامة القانون، جميعها حكايات الامس واليوم نقلت على الركح في نص تونسي سويسري ، اداء قيس عويديدي من تونس و ميرات بودامار ومهران مهدافي من زوريخ، ورغم اهمية المواضيع كان الاداء باهت جدّا...
البحر لهم نعمة ولشبابنا قبور تسرق الأحلام

ضوء خافت، موسيقى قوية تصم الاذان، ستائر سوداء اللون تتوسط الركح، شاب يجلس بينها، يسلط عليه الضوء يجلس القرفصاء ناظرا الى فوق ، نظرة شريدة وكانها تحكي العديد من الحكايا، يخرج من خلفه شبح لرجل يضع فوقه قماشا ابيض ثم ينسحب ، ليفهم المتفرج ان ذاك الشاب ميت وما البياض الا للدلالة على الكفن، ثم يتحدث الشاب ويقول « انا مت مرتين غرقت حين فقدت حياتي في بلدي، ومتُّ حين غرقتُ في البحر،» يتهدج الصوت وتصحبه موسيقى حزينة ليضيف « ركبت موج البحر، كنت روحا بريئة، روح تحلم بالسكينة، كنت شابا في عراء الطبيعة، افترشت فستانا مائيا أزرق، ساعتها استيقظ العقل والادراك، وادركت مدى هول الانتحار، ايعقل ان يرمي بنفسه في فوهة الموت من يعشق الحياة؟» هكذا يتحدث الغريق، ذلك التونسي الحالم الذي فقد كل احلامه في وطنه

فاختار الهجرة غير الشرعية طريقه عله يجد وطنا آخر، أليس الوطن ذاك الذي تشعر فيه انك إنسان كما يقول المثل، على الركح يشاهد المتفرج قصة الاف التونسيين الذين دفعتهم قساوة الظروف والبطالة الى الهجرة وركوب البحر فإمّا الموت او الوصول الى ايطاليا لعلّ الوضع يكون هناك افضل، عمن اكلتهم اسماك البحر، ومن كانوا طعما للقرش ومن اصبحوا وليمة للحيتان ومن لفظت جثثهم منهوشة ومشوهة يتحدث العمل، عن الحالمين اولئك الذين اصطدمت أحلامهم بوطن يسرق ساسته كل شيء حتى أحلام الشباب تتحدث المسرحية، عن «الحرقة» الحل الأقسى لشباب يتحدث النص التونسي الفرنسي، عن معاناة ووجيعة شبابنا الذين رموا أحلامهم وسط عباب البحر كان الموعد مع نص بغدادي عون ورولاند مارك.

بعد حديث الغريق، يظهر ذاك الشبح، بحذائه الأحمر، ومعطفه الطويل وقميصه المزركش صورة للباس عبثي وكأنها تنقل جزء من شخصية الرجل او «الحرّاق» ذاك الذي يبيع الاوهام للحالمين يغريهم بركوب البحر ، ويطلب منهم الكثير من المال يسلمونه رقابهم عن

طواعية وهو ينثر لهم عبارات تسيل لعاب امالهم « انا صانع الحكايا، انا من يحوّل الارض جحيما، والارض جنّة جديدة» هكذا يتحدث الحراق وهو يلوح بيديه كمجنون يريد حل معادلة عجز عنها عقله العليل، حوار الغريق والحرّاق، حديث فاقد الحلم وبائع الاوهام صاحبته موسيقى حزينة وكانها صوت للروح المكلومة صوت الاف الشباب التونسي الذين ماتوا في البحر وبعضهم الى اليوم لم يجدوا جثثهم وكان بالموسيقى صوتهم يقول «لم رميتمونا لم سرقتم احلامنا حد الياس وركوب البحر اين حق التونسي العاطل عن العمل؟ اين حق التونسي الباحث عن حلم في وطن بات الحلم فيه عسيرا؟».

كم من بحار بيننا؟ هو عنوان العمل هو حكاية عن ازدواجية البحر ذاك الازرق الكبير فهو قبر لأبنائنا ووسيلة ترفيه لمن يسكن شمال الضفة، فهم الاخرون أولئك الذين يأتون صيفا للتمتع بشمس تونس ويستوطنون البحار هم هناك يرون في البحر قطعة من الجنة، فهم يركبونه فقط للسياحة والمتعة وصورة السائحين على شاطئ جربة وهما يتمتعان بهدوء البحر صورة عن علاقتهم بالبحر، البحر عندهم أيضا كان ولازال اداة استعمارية، فكم حملة استعمارية فرنسية وايطالية اتخذت من البحر طريقها، استعمار أصبح اسمه اليوم إغاثة دولية، حماية الأقليات، وجميعها مرادفات لمعنى واحد الاستعمار كما شاهد جمهور أيام قرطاج المسرحية.

تشابكت المواضيع بلغة سينوغرافية تقترب إلى السينما
جميلة هي الصورة المعتمدة، الموسيقى جد مميزة والسينوغرافيا وجمالية الصورة نقطة قوة في مسرحية «كم بحار بيننا» السينوغرافيا او المهنة المجهولة كما يسميها البعض كانت ميزة العرض لعبة الضوء والموسيقى التي اشرف عليها المبدع دوما رياض التواتي، فنان عاشق لثنائيتي الضوء والموسيقى وكلما كان خلف تلك الالة العجيبة الا وكان العرض مغر موسيقاه مقنعة ولعبة الضوء تشد الانتباه وصاحبه خليل بن شعبان،و اعتمد السينوغراف شتيفان شفنديمان من زوريخ على التقنيات الجمالية الحديثة فقام بتسجيل الفيديو روني اولمان، المشاهد المسرحية في «كم من بحار بيننا» تقترب اكثر الى الصورة السينمائية وبعض المشاهد وكانها لوحة تشكيلية.

وفي «كم من بحار بيننا» كانت السينوغرافيا انيقة ومقنعة، تقنية الفيديو وانعكاس الضوء على الشخصيات واستعمال تقنية خيال الظل جميعها تكاتفت لتظهر للجمهور صورة مسرحية جميلة، تنقل الحكايات والاحداث المتشابكة، كذلك الاكسسوارات واللباس، لم يهملها المخرج والسينوغراف فلكل مشهد لباسه الخاص، لباس التاجر يختلف عن لباس رجل الاعمال، ولباس المصطافين يختلف عن للباس الحارقين ولباس عامل النظافة مغاير لباس المستكشفين، تقريبا لكل مشهد لباسه الخاص وزيه المختلف عن بقية المشاهد، فقط مشهدان اثنان اشتركا في نفس اللباس وهما بداية العرض وختامه فالمسرحية وكانها دائرية اختتمت بالمشهد الذي افتتحت به.

كم من بحار بيننا انتاج تونسي سويسيري غاص في الكثير من المواضيع التي يجمعها البحر ويفرقها، حديث الشمال والجنوب واسئلة الاسلام والارهاب والحب جميعها وجدها المتفرج في المسرحية التي دامت ساعة ونصف وقدمت بلغات ثلاث الفرنسية والالمانية والعربية، الامانية والفرنسية يتحدث بها الممثلين والصوت العربي مسجل لرانيا النايلي وصالح حمودة.

حضر الممثلون وغاب المسرح
لو شاهد السويسريون البعض من الاداء التونسي لاعتزلوا المسرح
كم من بحار بيننا ميزتها انك تستطيع مشاهدتها وانت مغمض العينين، لا تستحق ان تفتح عينيك فلا شيء على الركح يشد الانتباه باستثناء السينوغرافيا والفيديو، مسرحية قدمها ثلاثة ممثلين على الركح، ربما لو سجلوا النص وانسحبوا لكان اجمل، ممثلين يحفظون نصهم دون إضافة، على الركح تشاهد ازياء تتغير، تشاهد ممثلين يقرؤون نصوصهم كما حفظوها باللغات الثلاث ولكن اداءهم بارد باهت لا روح فيه، يؤدون ادوارهم دون احساس المسرحي الذي عهدناه عند الممثل التونسي.

في «كم بحار بيننا» لن تشعر بالشفقة على ذاك الشاب الذي اكلته الاسماك ولن تأخذك الحمية على وطنك وكيف يراه الاخر، ولن تبكي للكلام الموجع الذي تتحدث عنه اخت طارق التي لم تستطع دفن اخيها ، فقط لان النص جد موجع ولكن الاداء لا يمتّ للمسرح بصلة، ثلاثتهم يقرؤون نصوصهم دون احساس «موش كيفنا» كما قال احد المشاهدين فالتونسي تعود على مشاهدة ممثل يقدم الشخصية بجزء من روحه يقدم دوره وكأن دم عروقهم في ذاك النص تعودنا على ممثل كل ملامح وجهه وجسده قادرة على التعبير وان غابت الكلمات اما في المسرحية التونسية السويسرية فحضر الكلام وغاب الاداء، ربما لو شاهد الممثلون مقاطع من مسرحية «الماكينة» لوليد الدغسني في جزئها المتحدث على الهجرة او مقطع من مسرحية «سوس» لنزار السعيدي وتحديدا ذاك الذي يتحدث فيه محمد السعيدي عن الم الحرقة ووجيعة البحر وبروده وهالة المشاعر التي تسكنك حينها او جزء من «ارض الفراشات» لسامي النصري حين تجسد صابرين عمامي دور الام وتتحدث عن الوطن الضائع حينها قد يعتزلون المسرح او ربما يعيدون مراجعة ما يقدمونه، فالهواة التونسيون أكثر حرفية واداءهم اصدق مما شاهده الجمهور في قاعة الريو في المسرحية التونسية السويسرية ولكن «يعطى الفول لمن لا اضراس له» كما يقول المثل التونسي

من نقاط الضعف ايضا التسجيل الصوتي باللغة العربية، طريقة الاداء غير مقنعة، «تشعر المستمع ان المتحدثة تخاطب أصدقاءها وهم يحتسون قهوة في «بطحاء الحومة» على حد تعبير جزء من المتفرجين، مع اخطاء في الشكل والرسم تقلق الاذن وتقض مضجع اللغة العربية، ومايحسب للممثلين هو فقط حفظهم للنص بلغات ثلاث.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115