أرشاق: لقاء مع الشاعر والروائي الحر لُطفي الشابي «حين تخْذلك الرّوح ولا تَـهبك جناح النّور، يكون السّقوط مُدوّيا وأليما»

لقائي بهذا الكائن الحبري التونسي الوسيم نصّا وشخْصا كان صدفة , من أمتع الصدف التي منحتني ذات يوم من ذات سنة في الوطن بعض الأمل في «الجيل» النبيل العامل رغم التّعب وقلّة اليد والتجاهل العفويّ والمتَقَصّدِ... العامل كدحا من أجل العلم والمعرفة والجمال والحرية قيمة القيم ...

في أفق حضاري أخَذ يُشيد «بالجهل»... و«الأنانية الفاحشة» ومعاداة الكتابة والكِتاب والإختلاف وحقّ الاختلاف الخلاّق . كنت قرأت رواية له عنوانها «المائت» وأقد أخذتني «تيمتها» ولغتها والأداء السّردي الذي توخّته الذات الكاتبة وهي تتــهجّى ذاكرة مَسراتها وأوْجاعها منذ فاتحتها السردية: « المتعبون المسكونون بالحنين إلى منابع الصّفاء المفقودة لا يهتدون بسهولة إلى حرير المنام. وأنا رجل مُتعب منذ زمن. فقدتُ ينابيع صفائي. جفّ مورد النّور في الأعماق منذ فقدتُ نجمتي الهادية وانفصلتُ عن غيمتي فسكنتني الكوابيس وامتلأت بالأصوات النّاعية لا تكفّ عن نهش ضفاف منامي وقرض ما كان لي من ثبات

« أنتَ رجل مائتُ » هذا هو الصّوت الوحيد الذّي كان يتردّد في أعماقي وأنا أجرّ جُثّتي إلى تلك الدّار المزروعة في أعلى الطّريق. معزولة عن المدينة ومتفرّدة لا شيء يجاورها غير صنوبرة قديمة تظلّل جزءا كبيرا منها كلّما ركبت الشّمس أوّل المنحدر إلى مهواها. كنت أزحف نحوها وألهث. وكان للهاثي فحيح حاولت عبثا أن أكتمه أو أسكتَ نُواحه. وكنت أعاند وأرفض أن أرضخ لمشيئته التّي تملي عليّ التوقّف كلّ بضعة أمتار أقطعها. لقد أحببت النّص وأحببتُ كاتبه فأردت أن نُصْغي اليه سويا ...لقد تدرّبت معه على «الإصغاء».في حله وترحاله السردي، وهو يـُجيب على أسئلتي «غير البريئة» وهواجسي الليلية في شأن الكتابة والخيال والذاكرة الحَليبيّة والطّفولية وما تلاها.

• كيف للشاعر لطفي الشّابي أن يرسم سيرتة لمن لا يعرفة ؟
ولدت في مدينة «قصر هلال «في وقت موسوم بوميض نهضة وطن تعاقبت عليه منذ عصور غيوم وعواصف وأعاصير كان يخرج منها دائما معافى.. درست في مدرسة «أحمد عيّاد» الابتدائيّة ثم «بالمعهد الثانوي 2 مارس 1934». حصلت على بكالوريا الآداب في سنة الانقلاب الكبير الذي حوّل البلاد من حال الأسر في قبضة الوارث العجوز وعقله المتهالك على كلّ أسباب العظمة المكذوبة إلى حال الرّهينة في سجن الجنرال المريض بكلّ بهرج زائف.. درست اللغة والآداب والحضارة العربيّة في «دار المعلّمين العليا بسوسة» وتخرّجت منها بشهادة تتيح لي الارتزاق من مهنة / محنة أحببتها صغيرا ووهبتها منذ ربع قرن، وما زلت، جلّ جهدي وأغلب طاقتي فمنحتني ثروة طائلة من المحبّات والوفاء الجميل، وذلك حسبي منها. أنجبت إلى حدّ الآن ستّة أبناء، ولدين
( ياسر ومازن ) رسمت لهما أجنحة ولم أدلّهما على القبلة ولم أحذّرهما من العواصف، ولكنّي أراقب طيرانهما بنشوة وأنتظر تحليقهما أبعد ممّا أطلب لهما، وأربعة أبناء حبريين ( والتّسمية الجميلة لك ): روايتيْن ومجموعتين شعريّتين. أعيش بين «مدينة نابل» حيث أقيم وأتنفّس، وبين المهديّة ( مرورا بقصر هلال ) حين أرتاح من تعب العمل والكتابة والأنشطة الثقافيّة التي أمارسها في إطار جمعيّتين كنت من مؤسّسيهما منذ دخلت نابل سنة 1991.

• كيف أتيت إلى الكتابة؟
صُدفةً... أتيت إلى الكتابة من حيث لم أشعر. حياتي كلّها تقريبا كانت محكومة بالمصادفات التي أهدتني ما أنا عليه الآن ولم أذكر يوما أنّي كنت أخطّط لحياتي أو أسطّر لها مسلكا. كنت في فترة مراهقتي مهووسا بممارسة كرة القدم وبالمطالعة معا. بدأت أستعذب ما كانت تجود به عليّ كرة القدم من لذائذ ومغانم: بعض الحظوة وقليل من المال كان كثيرا وقتها، وكنت أحلم بمسيرة رياضيّة ناجحة كادت تحملني على الانقطاع عنالدّراسة لولا إصابة خطيرة كسرت ذلك الحلم الذي كان معلّقا بقدميّ ووجّهتني إلى الطّريق الأطول والأقلّ إبهارا..( أبتسم حين أرى نفس الحلم يسكن ابني المراهق الآن ). الصّدفة قادتني أيضا إلى دار المعلّمين العليا. لم أكن أتصوّر يوما أنّي سأصدر كتابا، رغم أنّي كنت أخالط الشعراء والأدباء وأحضر الأمسيات الشعريّة والنّدوات... كنت أكتفي بمتعة القراءة والاستماع، وأجد كفايتي في القراءة والتّدريس. غير أنّ الصّديق الشاعر آدم فتحي أغراني بالنّشر حين اطّلع على نصّ قصير كتبته سنة 2009 في مائويّة الشّابي. كان نصّا من ثلاثين صفحة بعنوان « عودة روح » وحين قرأه طلب منّي أن أشتغل عليه وأجعله رواية. هكذا وُلدت روايتي الأولى « ما لم يقله الشّاعر » وهكذا وَلدْتْ هي أشقّاء لها بلغ عددهم الآن ثلاثة:
مجموعين شعريين ورواية ثانية.

• كلّ ذاكرة حبريّة، سرديّة كانت أم نثريّة، هي ذاكرة حكائيّة. فما هي أهمّ الحكايا الطفوليّة التي تشرّبتها ذاكرتك؟
كثيرة هي الحكايات التي تسكنني منذ طفولتي وتستيقظ في أعماقي كلّهما هممتُ بالكتابة أو عبرت نصّا من النّصوص السرديّة أو الشعريّة.. ولكنّ مشهدين ظلاّ عالقين أكثر منها كلّها بذاكرتي رغم أنّهما غائمان وبعيدان في الزّمان وفي المكان: الأوّل حدث وأنا لم أتجاوز الرّابعة أو الخامسة من عمري، ضيّعت في يوم السّوق الأسبوعيّة طريق العودة إلى بيتنا الذي لا يبعد كثيرا عن وسط المدينة، قادني أحدهم إلى مركز الشّرطة، وهناك أصبت برعب أكبر، ولا أدري السبب. كانت هناك امرأة تجلس على كرسيّ في أحد المكاتب وتبتسم لي وتحاول إسكاتي بما في قفّتها من حلوى ومن فاكهة، ولكنّي لم أكن أستجيب لإغرائها. كان صوت البوليس الذي لم يكفّ عن الصّياح والشتم مرعبا ووجهه مخيفا، ولم أكفّ عن البكاء حتّى جاء أبي وانتشلني من بكائي وشعوري بالتيه وبالرّعب آنذاك، ولكنّه لم يُفلح في أن يجتثّ بذرة ظلّت تنمو في أعماقي وتكبر: النّفور من البوليس. تطوّر ذلك الشّعور لاحقا في أحداث آخر السبعينات وأوّل الثمانينات فأصبح كراهيّة وعداوة عبّرت عنهما المواجهات العنيفة التي شهدتها مدينة قصر هلال.

المشهد الثاني كان في بداية السبعينات، شهدتُ أمطارا طوفانيّة اقتحمت الكثير من البيوت وهدمتها.. وكان بيتنا الواقع على مشارف غابات زيتون من بين البيوت التي اكتسحها الماء. لا أنسى صورة والدتي التي كانت تبكي عجزا عن ردّ السّيل الذي اخترق الجدار القبليّ وهي تركض في كلّ اتّجاه وتحاول سدّ الثّقوب بالخرق والرّمل وبكلّ ما تقع عليه يداها... كنت وإخوتي الصغار نقف على الدّكانة في البيت القبليّة ونراقب ركضها من جهة إلى جهة في الفناء، ولم أكن أسمع غير نشيجها الذي كان يصلني واضحا من بين إيقاع المطر العنيف وهدير السّيول. تلك الملامح المتفجّعة وذلك النّشيج المفجوع لم يغادرا أعماقي أبدا... وأظنّ أنّ تلك الصّورة هي التي ارتسمت في مخيّلتي وأنا أودّعها وهي ترحل إلى هناك خفيفة متخفّفة من كلّ أسباب الفجائع وما يرتدّ للكائن الحيّ منها من مرارة الشعور بالعجز وبالقهر.

• غالبا ما يمثّل المعلّم أو الجدّ أو الأب أو الأمّ أو الجدّة أو شخصيّة شوارعيّة نموذجيّة مرجعا استلهاميّا للكتابة، خاصّة السّرديّة منها، فهل حوّلت شخصا ما إلى شخصيّة روائيّة؟
كلّ عمل روائيّ يستلهم من الواقع وقائعه ويبني أحداثه وشخوصه... الرواية فعل تركيب ونحت وتفكيك ولصق. والرّوائيّ البارع هو الذي ينجح في إعادة تشكيل التاريخ: تاريخ المكان والشّخوص، وتركيبها على نحو طريف مغر. في كلّ روايتي حضور لرجال ونساء أثّروا في تكويني ووجّهوني من حيث قصدوا أو لم يقصدوا. منهم ثلاثة معلّمين أهديهم كلّ ما أكتب لأنّي على وعي تامّ بأنّهم يملون عليّ، رغم غيبتهم، ما أكتب.. امرأتان: والدتي فاطمة وجدّتي لأبي صحرة ( كان يحيّرني اسمها منذ طفولتي المبكّرة ويغريني بصحبتها رغم صرامتها ) ورجل: خالي علي نباوي، علّمني وهو يسرد عليّ تجاربه النّضاليّة الطويلة معنى الالتزام والحريّة والإيثار والشّجاعة... هو من كان يحثّني على القراءة كثيرا والكتابة قليلا.. وهو الذي وجّه خطواتي في سنوات مراهقتي، فكنتُ أجهد أن أكون كما كان يريد لي. سيكون له حضور بارز في روايتي الجديدة التي أرجو أن أفرغ منها قريبا، لأنّها أنهكتني.

• التّيمة العامّة لروايتك « المائت » هي محاورة الذّاكرة، والذّاكرة المركّبة بانغراسها في المكان، الذّاكرة الحليبيّة والعاطفيّة باستحضار مكثّف للخيبات والأوجاع. فهل للسيّد الرّوائيّ الشّاعر أن يساررني عن تلمّساته اللّيليّة ومخاوفه من انفلات الشّخوص وتمرّدها عليه؟
أحبّ أن أعكس مسار سؤالك فأقول: أشعر في أحيان كثيرة أنّي شخص روائيّ وأنّي أرجو من شخوص روايتي أن تحميني من كلّ انفلات ممكن وأن تكبح قابليّتي الفطريّة للتمرّد. حين أكتب أحرص على كتابة الواقع كما أراه بعين الرّوائيّ المحكوم بواجب الرّواية الأشدّ نُبلا: صيانة الذّاكرة الجمعيّة ومقاومة النّسيان. ولكنّ ذاكرتي الشّخصيّة تحضر بقوّة وتصرّ على اكتساح عوالمي التي أبنيها بوعي وتزرع في أرجائها المشاهد اللاّواعية والوقائع الرّاسخة في أعماقي كما الوشم. في روايتي «المَائت»، مثلا، حاولت أن أوظّف ذكرى المكان لخدمة المعنى القائم على الخيبة الجمعيّة والأوجاع الواسعة لجيل كامل.. وتمكّنت من رسم ملامح مكان لم أعش فيه أبدا هو «زغوان «على نحو محايد ووظيفيّ، ولكنّي وقعت في الوجع الشّخصيّ المَرير حين رسمْت ملامح الطفل ثمّ المراهق الذي عاش في «قصر هلال». كان ذلك من أكثر المَخاوف التي أواجهها حين أكتب، أخشى من أن تفيض الذّاكرة بأوجاع شخصيّة تسيء إلى من رافقوا طفولتي وقد كانوا أهْلا وأحبّة، دون أن تُريح من يتذكّر ويدوّن. لا أخشى انفلات الشّخوص وتمرّدها عليّ، ولعلّ ذلك من صميم العمل الرّوائيّ لحظة إنجازه، بل أخشى أن أتماهي معها في الواقع فتسرقني منه وتسلبني ما به أكون مطمئنّا حين أنزعها غبّ الفراغ من معاشرتها.

• أيّ عــلاقــة بيــــن أوّل نصّيك الرّوائيّيـــــن «ما لم يقله الشّاعر» و «المائت»؟ هل أراد الرّوائيّ الحكّاء أن يستنطق، مثلا، ما سكت عنه الشّاعر من مسرّات وأوجاع؟
قد نجد بينهما أكثر من وشيجة متينة حين نتدبّر متنهما بعين الباحث المدقّق، فروايتي الأولى، وإن جاءت احتفاء بالشّاعر الشابي في مائويّته، حاولت من خلالها أن أرصد التحوّلات التي طرأت على المجتمع التونسيّ، وعلى وجه الخصوص على نخبته الأدبيّة، ومنها خيانة روح الالتزام في الشّعر وفي الفنّ، بسبب هيمنة السّياسي واستفحال الهاجس المادّي الذي لا يوازيه إلاّ انحدار في القيم وتخلّ عن المبادئ الكبرى... وكذلك كانت رواية المائت، التي رغم صدورها سنة 2013 إلاّ أنّها ظلّت وفيّة لزمن كتابتها ( صيف 2010 ) وما كان يعيشه المجتمع التونسيّ آنذاك، بالتّركيز على نخبته المثقّفة أيضا، من تدهور قيميّ لا يمكن تفسيره إلاّ باكتساح الاستبداد كلّ مجالات الحياة ومستوياتها على نحو فظيع لم يكن يدفع إلاّ إلى أحد مسارين: الموت انتحارا واعيا أو الثّورة انفجارا غريزيّا سادرا. الحكاية هي أنسب من الشّعر في مثل هذه المقامات وأنجع، لأنّها تملك كلّ أدوات التّصوير الممكنة وتتيح كلّ أشكال الفضح والتّعرية التي لا يتيحها الشّعر، ربّما، على النّحو الأكثر وضوحا ومباشرة ومضاء. ما قاله الشّعراء ، منذ البدء شعرا، والشابي أحد أكثر الأوفياء لروح السّلالة، يقوله الرّوائيّون على نحو أكثر وضوحا وقابليّة للتوغّل في التّفاصيل البسيطة في ظاهرها والعميقة في مدلولاتها.

• إذا كانت الرّواية حقّا هي اسفنج الأجناس الأدبيّة، فهل سمحت لك مساحاتها السّرديّة بقول ما أردت قوله؟
نعم، ولكن بتفاوت. روايتي الثانية كانت أبلغ. لقد اشتغلت عليها بما يكفي حتّى تكون كما أحببت لها أن تكون: تصويرا بليغا لحال الفراغ التّي كانت تمرّ بها البلاد بعد حال الصّخب المكتوم الذي عاشته منطقة الحوض المنجميّ، وبعد الصّمت البذيء الذي انحدرت إليه النّخب ( وأستثني منهم عددا قليلا كان يشقى بما اختار).. كان لا بدّ من رواية كـ«المائت» لكي تبقى الذّاكرة حيّة ودليلا تقود إلى المعنى وتمنع من السّقوط في المتعاود من دورة التّاريخ المحكمة الإنغلاق.

• أحيانا يرسم الكاتب دون وعي منه قدره الشّخصيّ في نصّ. فهل حدث لك أن عشتَ لاحقا ما كنت قد كتبتَه سابقا؟
لقد كتبت في روايتي «ما لم يقله الشّاعر» أنّ الإنسان يكتب حياته في الخيال ثمّ يعيشها في الحقيقة. هكذا أرى الحياةَ. والكاتب في نظري أيضا لا يكتب إلاّ من وحي حياة عاشها ووقائع رسخت آثارها في أعماقه وطبعت شخصيّته ووجهت ذائقته وطبائعه واختياراته... أمّا أن أكتب قدري الشّخصيّ في نصّ، فهذا ما يرعبني فعلا. مصائر شخوصيّ كلّها فاجعة أو موجعة، ومن يدري، قد أكون في حال الكتابة بصدد رسم ملامح حياة تنتظرني، أو صدى حياة عبرتني.. كتبت غربة المثقّف وعزلته ورعبَه في ظلّ نظام استبداديّ موروث قديم، وحين انتصب النّظام الذي يزعمون أنّه ديمقراطيّ صرت أشدّ خوفا وأكثر شعورا بالغربة والعزلة. أصبحت على مثل اليقين من أنّ من يتصدّى لتجربة الكتابة عليه أوّلا أن يقبل بالضّريبة الباهظة التي يجب أن يدفعها من حياته ومن دمه وطمأنينته وأن يسلك الدّرب إليه وهو يعرف أنّ آخره، مثل أوّله، وجع.

• يبدو لي أنّ الأشعار التي تستند إلى نفَس سرديّ روائيّ هي أكثر الأشعار مقبوليّة الآن، وإن كانت الأشعار الشّذريّة المصاغة على طريقة البلاغات الإشهاريّة أكثر شهرة من المطوّلات. فأيّ الصّيغ الإشهاريّة أقرب إليك؟
لا أميل كثيرا إلى المطوّلات.. ولكنّ ( يا للمفارقة ) أغلب نصوصي الشّعريّة طويلة.. أفضّل عند قراءة الشّعر النّصوص القصيرة وأرتاح إلى النّفس السّرديّ الذي يتخلّل الشّعر، ولكنّني أحيانا أشعر أنّي لا أختار حجم القصيدة، وأسترسل في تقفّي أثر الحكاية فيها حتّى تعلن عن وقفتها الواجبة. نحن نعيش زمن السّرعة في كلّ شيء، والصّورة هي أنسب الصّيغ الكتابيّة لذائقة هذا الوقت، ولكنّ الشّاعر لا يجب أن يخضع دائماللذائقة المهيمنة، بل عليه أحيانا أن يكتب ما يراه مناسبا سواء تعلّق الأمر بالاختيار الجماليّ أو بالطّرح المضمونيّ . من يكتب عليه أن يعي أنّه يكتب لذائقة أخرى غير التي تقرأ له في زمن الكتابة، لذلك عليه أن يثق بحدسه ويصدق مع ما تقول أعماقه.

• تتكرــّر تيمــات «الغــــربة» و«الحــــبّ المفجوع والموجوع» و«اليُتم» و«الخيبـــة في الصّداقــــات وفي المحبّات» و«خرابات الصّيدليّات العاطفيّة»... ألاحظ ما يُشبه المفارقة العجيبة لديك: أنت كائن هادئ بملامح صوفيّة وبوذيّة، في حين أنّك انفجاريّ على مستوى الكتابة، إذ لا أكاد أصدّق أحيانا أنّ الشّخص الذي أحاور هو نفسه من كتب « المائت » مثلا ؟
يختزل هذا السّؤال حقيقة ما أعيش وأكابد فعلا، ويعرّي أعماقي القصيّة التي أحرص على إخفائها حتّى عن نفسي. حين أخلو إلى نفسي وأحاور أعماقي أنتبه إلى هذه المفارقة وأحتار في طرفيها كيف اجتمعا في ذات واحدة. أبدو هادئا كما تقول، وأظهر في إهاب الصّوفيّ وطمأنينة البوذيّ، نعم، ذلك ما يراه الأصدقاء البعيدون، أمّا القريبون ( وأعني القرّاء والأشقّاء الحبريين ومن فتحت لهم حديقتي السريّة فجالوا في أرجائها ) فيدركون جيّدا أنّي أنهل من كلّ الأوجاع التي عرفت وأستلهم كلّ الموروث المعاش والمكتوب من الفجائع البشريّة ولا معنى للحدود بين تاريخ الأفراد وتاريخ الأمم والجماعات حين يتعلّق الأمر بمحاورة الكائن البشريّ ورسم تركيبته الثّابتة. الغربة قدر ذي العقل والضّمير الحيّ، لأنّ الحياة لا تصفو كما يقول المتنبّي، إلاّ لجاهل أو غافل عمّا مضى فيها وما يُتوقّع منها، أمّا الحبّ المفجوع والموجوع واليُتم في كلّ معانيه وأبعاده، والخيبة وامتناع الشّفاء، فتلك مسألة على أطبّاء علم النفس السريريّ أن يخضعوا موضوعها إلى مشارطهم لعلّهم يكشفون أسبابها ويغوصون في أعماقها فأرتاح حين أعي ما وراء الظّاهرة السّلوكيّة التي أكابدها، ولو أنّي ألفتها وأحببتها لأنّها تمنحني مناهل للكتابة.

• كيف استطعت أن تجمع بين السّكينة السّلوكيّة مع الآخرين والنّزعة البركانيّة مع القرّاء؟
أظنّ أن ذلك يعود إلى طبعي الذي أدين له بالسّلام مع الآخرين (إلى حدّ ما ) لأنّي لست كائنا صداميّا في نطاق العلاقات الاجتماعيّة، ولأنّي، خاصّة، زهدت في الغنيمة فارتاح الآخرون وسالموني. أمّا عن النّزعة البركانيّة مع القرّاء فلعلّها تدين أيضا لذلك الطّبع الذي ينحو إلى التأمّل والتقاط كلّ ما يجري في الواقع بعين الرّوائيّ اليقظى. أنا ممّن يخزّنون الشحنات الخلافيّة والمعارك والخصومات ويحاورونها في أعماقهم، ويستلهمون من تلك المعارك المكتومة أو الحوارات المكبوتة تلك البراكين التي تنفجر في النصّ. العداوات التي أجنيها من الكتابة تعادل الصّداقات التي أحصل عليها في الواقع، وفي كلتا الحالين أشعر بالرّضا وأستعذب الغبطة النّاجمة عنهما.

• هل تخاف حين تكتب؟
كلَّ الخوف.. أصاب برعب مواجهة الأوراق البيضاء منذ بارقة مشروع النصّ الأولى.. ويستمرّ ذلك الشّعور على امتداد مرحلة الكتابة وبعدها بوقت.. ما من شيء أقدر على إثارة الرّعب في قلب المرء كالتصدّي للكتابة عند من يعي جوهر الفعل الإبداعي وحقيقته. تتلبّسني الشّخوص التي أخلقها وتسكنني المصائر والوقائع وتحتويني الأمكنة والأزمنة حتّى لكأنّي أحلّ فيها حلولا يفقدني كلّ وعي بالواقع الذي أتحرّك فيه. «أدهم الصّافي» بطل روايتي المائت ما زال مقيما معي، وهو من يفرض عليّ حضرته في نصّي الجديد وكأنّه شخص حقيقيّ لا شخصا ورقيّا كنت أنا خالقه وقاتله في الرّواية. كلّ مشروع نصّ جديد هو عندي مغامرة مرعبة، ولا أكاد أرتاح من مغامرة حتّى أدخل في أخرى. هذا قدر الكاتب الذي لا يملك له ردّا.

• هل صادف أن مثّل استحضار القارئ في ذهنك سلطة لحظة الكتابة؟
نعم، دائما. أكتب وأنا أستحضر السّلطة التي أستبطنها عن القارئ الذي يحاصرني: من سلطة المجتمع البسيطة إلى سلطة المستبدّيْن الكبيرين: الدّين والسّياسة، وهما واحدة في نظري وإن بدتا منفصلتين. وجدت صعوبة في البحث عن أساليب مخاتلة سلطة العهد النوفمبريّ القاهرة حين كتبت روايتي «المائت»، والآن أواجه نفس المشكلة وأنا أحاول روايتي الثالثة منذ أكثر من عامين.. أظنّ أنّ الكتابة في جوهرها العميق هي محاولة مستمرّة لمواجهة هذه السّلطات ومناورتها.

• هل تمثّل الكتابة لديك حقّا «طقسَ عبور»، كما الصّلاة التي يفترض أن تنقطع فيها الذّات عن الزّمن الحسّي، زمن الحساب المشار إليه بالسّاعة للانخراط في زمن آخر يعلو على الأزمنة اليوميّة. والدّليل على ذلك أنّ الكاتب حين يراجع مكتوبَه بعد مدّة لا يكاد يصدّق أنّه هو عينه إيّاه من كتب ذلك النصّ، ويحدث له أن ينسى شروط كتابته.. هل الكتابة عندك « طقس عبور » بهذا المعنى؟
هي كذلك عندي، فعلا، وخاصّة حين أكتب الشّعر. الشّعر في نظري بحث مستمرّ عن الحديقة التي أطلبها منذ وعيت ذاتي وأدركت معنى أن أكون إنسانا وفيّا لمعدن الإنسانيّة الحقّ. القصيدة عندي جسر يقود إلى المحلوم به وإن كانت رثاء له وإقرارا باستحالة إدراكه.. في مجموعتي الأخيرة «نصف قمر على ليل الحديقة» اختزال بليغ لهذا المعنى. وحين أقرأ قصائدي أجد فعلا صعوبة في تذكّر اللحظات التي وهبتني تلك النصوص والظّروف التي أملت عليّ معانيها وصورها. أتقبّل قصائدي كما يتقبّلها القرّاء، فتشدّني وتثيرني وكأنّ من كتبها شخص آخر غيري. يهبنا الشّعر عزاء وتسلية، فهو كالمسكّنات التي تحفظ السّير وتمنع من الوقوف أو السّقوط.

• هل توفّر الكتابة عندك ضربا من الإشباع العاطفيّ؟
قد تكون كذلك.. لا أدري. ولكن ما أنا واثق منه أنّها توفّر لي حالات من الغِبْطة المتجدّدة.

• هل حقّا أنّ من لا يُدرك الغبطةَ ( والتي هي الفرح العقليّ ) لا يدرك حقيقة مِحْنة الكتابة؟
ـ تماما... من لا يعرف الغبطة والحالات الموجبة لها هو أبعد ما يكون عن معنى الكتابة باعتبارها محنة ومسؤوليّة. نعيش زمن كثرة الكتّاب ووفرة الشّعراء من جهة وقلّة المغتبطين بالكتابة والبالغين درجة النّشوة العقليّة التي لا تكون إلاّ حين نحفر عميقا في أنفسنا ونسلك إلى ذواتنا طريقا بكرا نسلكها ونغري بها السّالكين من بعدنا.

• هل يمكن اعتبار الكتابة تأجيلا ممطّطا للانتحار؟
بل هي كذلك حتما.. هكذا صرت أعتقد منذ وقت ليس ببعيد. أصبحت أكتب ( وأقرأ أكثر ممّا أكتب ) حتّى لا يأكلني الفراغ ويلتهمني ذلك الشّعور المقيت باللاّمعنى وهو المرادف الأصدق للانتحار...

ـ يكفي أن نتصفّح ما تقذف به المطابع من كتب حتّى ندرك موتَ القيم الكبرى: « الحبّ » والصّداقة والحريّة والعدالة والكرامة والإيثار، في مقابل استئثار فظيع بالمكاسب والمغانم وسائر الثّروات الطبيعيّة، كما نبّه إلى ذلك الحكيم الهنديّ « أوشو «. لكن ألم يكن الوضع البشريّ كذلك دائما؟ لا تنبني حضارة إلاّ على حطام أخرى، ولا ينهض شعب إلاّ على حساب سواه من الشّعوب.

ـ في ثنايا سؤالك يتحرّك الجواب. أقرأ كتب التّاريخ، وبي ولع جديد بها، فلا أكاد أعثر فيها إلاّ على هذه الحقيقة: طبع الإنسان واحد منذ كان، وسيرته نفسها رغم ما تحاول « الحضارة « أن تحجبه عن أعيننا من تمكّن الجوع من الأنفس البشريّة. لم تفلح القوانين التي وضعها الإنسان إلاّ في تمكين الغريزة الغالبة من إشباعٍ مستمرّ يقرّ دائما بتفاوت الأفراد، وكذلك الأمم والشّعوب، في الأحقيّة بالمغانم والمكاسب. إنّه تقنين مهذّب للوحشيّة التي تسكن البشر ولغريزة الافتراس والقنص وإلغاء الآخر ومحو المُنازع على الثّروة.. أغلب الحكماء اهتدوا إلى هذا المعنى، والشّعراء هم على رأس طبقة الحكماء عندي.

• كيف يقرأ الشّاعر الرّوائيّ كتاب أنباء العصر؟
لا أرى إلاّ كلّ ما يدفع إلى الإحباط ويعجّل بحالات يأس موجعة.. كنت شاهدا في العقود الخمسة الأخيرة على وقائع ليس فيها من البهجة إلاّ ما تعلّق بالمنجز الشّخصيّ والمكاسب الذاتيّة المتاحة للجميع. في حياتي أحلام كثيرة للوطن وللإنسان فيه، لم أحظ منها إلاّ ببارقة الحلم أو لمعة الرّؤيا التي سرعان ما تذوي وتضمحلّ.. محلّيا شهدت إجهاض أكثر من مشروع في ذات الشّهر (يا للمصادفة) من سنوات متباعدة: آخر السّبعينات، مطلع الثمانينات ثمّ وصولا إلى هذه الخدعة الكبرى التي رفعتنا إلى سماء النّشيد شاهقا ثمّ هوت بنا إلى قاع بعيدة الغور من الوجع والأسى. أمّا كونيّا فلا يكاد يمضي يوم دون أن تشهد فيه البشريّة اندلاع حرب أو تفجّر صراع أو تدبير فتن وحياكة دسائس من أجل تدمير الأوطان ونهب ثرواتها وإهدار القيمة ومحو الإنسان. لا أقرأ في كتاب أنباء العصر إلاّ ملحمة السّراب التي لا نهاية لها.

• بمَ تحلم وأنت الرّوائيّ الشاعر؟
ـ على المستوى الشّخصيّ لا أحلم إلاّ بأن أقطع ما تبقّى لي من الطّريق محتفظا بنفس الرّوح الذي دلّني عليها ورافقني فيها. كتبتُ حياتي، ورسمت مساراتها وأنا أكتفي الآن بالمضيّ فيها إلى غايتي مطمئنّا.. لا أطلب غير ما أرى، وما أرى لا يعني شخصا غيري، ولا يقاس بأيّ مكسب ماديّ أو غنيمة، لهذا ربّما لست قلقا على ما أحلم به، فهو لي ولا أخشى عليه من أيّ منافس. وعلى المستوى المحلّي فالحلم عسير والإحاطة به في هذا الحيّز صعبة، ولكنّي أكتفي بهذا: أحلم بوطن صاحٍ، يعرف كيف يستخلص من العواصف دروسها ومن الأعاصير وصاياها ومن البراكين والزلازل ما يجعله بمنأى عن البراكين والزلازل القادمة... أحلم بوطن يعرف كيف يصون ذاكرته حتّى لا يقتل عشّاقه ويفتح أحضانه لقاتليه. أمّا على المستوى الكوني فأحلم بخلاص نهائيّ من هذا الوله القاتل بهذا القبيح الذي وجهه حسنٌ والذي نسمّيه « حضارة «. أحلم بأنّ يكفّ هذا الغول الذي يسمّونه رأس المال عن افتراس البشر، لأنّه لا يفترس في الحقيقة إلاّ نفسه.. على العالم أن يكفّ عن هذا التّفاني المحموم الذي يزداد جنونا يوما بعد يوم.

• ما هي الجمل التي تعتبرها من «عرائسك الحبريّة» كما يقول القدامى و التي ستكون سعيدا لو احتفظت لك بها الإنسانيّة؟
ـ لا أذكر الآن عروسا من العرائس الحبريّة التي رسمتُ، ولست واثقا تماما من أنّي اهتديت إلى واحدة منها تليق بالبقاء وتستحقّ الخلود، ولكن قد تكون عبارة قالها الرّاوي في روايتي الأولى « ما لم يقله الشّاعر»عروسي الحبريّة الأثيرة: « حين تخذلك الرّوح ولا تهبك جناح النّور، يكون السّقوط مدوّيا وأليما «. أرجّح أنّي سأكون سعيدا لو سمعت من مداري البعيد هناك، بعد وقت، شخصا يردّد هذه العبارة أو يستدلّ بها في سياق حديث عن خلاصة عبورنا العابرهذا.

• ماذا تتــمنّى لتونس وتـَــتـَمنّى عليها ؟
لا أتمنّى لتونس التّراب والشّجر والجبال والحجر والأنهار والبحار، وسائر ما يسمّيها تونس ويجعلها حسناء على الدّهر، شيئا.. لأنّها تحفظ الوصايا جيّدا وتعرف كيف تصون فتنتها وتحفظ مدارها. أمّا تونس العباد والبشر فإنّي أتمنّى عليها أن تنتبه من غفلتها عن همس عشّاقها المخلصين وأن تكفّ عن التنكّر لعذابات الرّحيل بها إلى ما يحبّون لها.. أتمنّى عليها أن تصيخ إلى همس الصّادقين وأن تميّز بين الأيادي التي تغتال والأيادي التي تداوي، وبين القلوب الجشعة والقلوب المعطاءة، وبين العقول المريضة والعقول الطّبيبة... أتمنّى على تونس البشر أن تهتدي إلى إنسانيّتها وتحفظ خير ما فيها.

لقد بقيتُ أرُدّدُ بيني وبين نفسي وأنا أطوي «الحوار / اللقاء مع الروائي / الشّاعر لطفي الشابي: «حين تخْذلك الرّوح ولا تَـهبك جناح النّور، يــكون السّقوط مُدوّيا وألـيـمـا».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115