أدباء في القلب والذاكرة: الجيلاني بلحاج يحيى (1929 /2010)

هو علم من أعلام الأدب والفكر في بلادنا فقد كان موسوعي الثقافة متعدد الاهتمامات ومن مؤسسي عديد الجمعيات الأدبية. كتب في التاريخ والأدب واهتم بوضع قاموس مدرسي وللأطفال كتب عديد القصص بالإضافة إلى ولعه بالبحث والتوثيق حيث كان خير موثق لكل ما تعلق بجزيرة جربة (مسقط رأسه)

كما كان نعم الأنيس وخير جليس لأصدقائه في المجالس الأدبية المتعددة التي كانت تجمعهم وذلك لروحه المرحة وإخلاصه ووفائه لكل من عرفهم وقد أثرى المكتبة بما يفوق العشرين تأليفا... ذلك هو الجيلاني بلحاج يحيى.

في ميدون بجزيرة الأحلام جربة كان ميلاد الكاتب التونسي الجيلاني بلحاج يحيى يوم 12 جوان 1929 حيث نشأ وتعلم قبل أن ينتقل إلى العاصمة تونس والتي غيّبه فيها الموت صباح يوم 26 أفريل 2010 لتكون مقبرة الجلاز مثواه الأخير وبين التاريخ الأول والتاريخ الثاني مسيرة 81 عاما كانت حافلة بالنشاط في مجال الأدب والفكر والثقافة.

لقد تعلم الجيلاني بلحاج يحيى ككل أبناء جيله في الكتّاب أولا أين حفظ القرآن وتعلّم كتابة الحروف بالإضافة إلى القراءة والحساب ليزاول بعد ذلك تعليمه الابتدائي في المدرسة الوحيدة بميدون حتى حدود سنة 1942 تاريخ انتقاله إلى مدينة تونس لمواصلة تعليمه الثانوي في جامع الزيتونة المعمور حيث تحصل على شهادة العالمية سنة 1948 وعلى شهادة التحصيل سنة 1950 ليتم انتدابه بداية من العام الموالي معلما بالمدارس الابتدائية ومن هنا انطلق الجيلاني بلحاج يحيى في مسيرة تربوية طويلة حيث درّس في عديد المناطق أيام كانت البلاد غارقة في متاهات الجهل والتخلف والفقر وغيرها من المسائل التي فرضها الاستعمار الفرنسي الغاشم لكن المعلم الشاب آنذاك كان حريصا على تنشئة تلاميذه على القيم والمبادئ النبيلة وحب الوطن والتمسك بمقومات الهوية.

هذا التميز في العمل خوّل له الحصول على شهادة الكفاءة البيداغوجية فتم انتدابه بعد استقلال تونس، وتحديدا سنة 1957 متفقدا للتعليم الابتدائي وكان قبل ذلك قد برز أيضا في مجال النشاط الثقافي حيث كان وراء بعث العديد من التظاهرات والفضاءات الثقافية وخاصة المكتبات العمومية في مختلف الجهات التي تولى فيها التدريس. هذا التميز الذي أساسه الشغف بالكتاب وما يحتويه والوعي بأهمية دوره في رفع الجهل ونشر الثقافة والفكر النيّر كان وراء انضمامه إلى معهد أمناء المكتبات بالعاصمة السويسرية (جينيف) وذلك بعد حصوله على منحة تخصص في فن المكتبات وعلومها من منظمة اليونسكو ليكون بذلك الجيلاني بلحاج يحيى هو أول المختصين في تونس في هذا المجال.

وفي الستينات وبعد أن شغل الجيلاني بلحاج يحيى خطة رئيس مصلحة بديوان الكهول تم إلحاقه بوزارة الثقافة حيث وقع تعيينه مديرا لإدارة المكتبات فعمل على نشرها في البلاد وتأهيل القائمين عليها. كما عمل خبيرا في هذا الاختصاص لدى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم طيلة سنوات ليتم تعيينه فيما بعد مستشارا لدى وزير الشؤون الثقافية وقد ظل في هذا المنصب إلى أن أحيل على التقاعد سنة 1989.

بلحاج يحيى والنشاط في النوادي والجمعيات الثقافية
في الأربعينات كان الجيلاني بلحاج يحيى والكثير من أصدقائه يجمعهم لقاء في مقهى الهادي الصيد بتونس وفي عام 1949 كان من مؤسسي نادي القلم الذي ترأسه العروسي المطوي فيما تولى هو خطة أمين المال ومدير مجلة القلم وقد كان من بين أعضاء الهيئة آنذاك الشاعر القيرواني علي بن هادية وبلحسن البليش والطاهر قيقة ثم أصبح المجلس ينعقد في مقهى القشاشين بالعاصمة وفيه كان يلتقي الزواتنة والصادقيون (نسبة إلى المدرسة الصادقية) ومن بين رواد هذاا لمجلس حمادي الساحلي ومحمد اليعلاوي والشاعر الجريدي التابغي لخضر مع حضور غير منتظم للأديب مصطفى خريف وكان يطلق على هذا المجلس «السلامية الثقافية».

وفي منتصف الستينات تم تأسيس النادي الثقافي «أبو القاسم الشابي» بالوردية فكان الجيلاني بلحاج يحيى من مؤسسيه وفي رحابه كانت تُنظّم مساء كل خميس الندوات والملتقيات الفكرية والأدبية كما كان أيضا من المنتسبين إلى نادي الجمعة برادس حيث كان اللقاء يتم هناك في دار القاضي محمود شمام عشية كل يوم جمعة أما صباح أيام الأحد فكانت المكتبة الأدبية لعبد القادر الطرابلسي قرب جامع الزيتونة هي الحاضنة لمجلس ثقافي كان يلتقي فيه مجموعة من المهتمين بالشأن الأدبي منهم بالإضافة إلى الجيلاني بلحاج يحيى العروسي المطوي والطاهر قيقة ومحمد المرزوقي والحبيب اللمسي وعبد اللطيف الحمروني وصالح المهدي ومحمد اليعلاوي وآخرون هذا بالإضافة إلى مجالس أدبية أخرى على غرار نادي نهج دار الباشا ونادي «زرياب» الذي أسسه الموسيقي والمثقف المتميز الدكتور صالح المهدي المعروف في الوسط الموسيقي التونسي باسم زرياب بالإضافة إلى أنه انتسب إلى اتحاد الكتّاب الذي أسسه صديق دربه العروسي المطوي سنة 1971.

الجيلاني بلحاج يحيى والإنتاج الأدبي والفكري
لعل من أبرز ما ميّز الجيلاني بلحاج يحيى هي أن مهامه الوظيفية المتعددة لم تبعده عن ممارسة نشاطه الأدبي والفكري وبحكم قربه من الأطفال لما كان معلما وإيمانا منه بأن الطفل هو المستقبل حرص على أن يمد له يد المساعدة حتى خارج المدرسة من خلال تأليفه لعدد من قصص الأطفال نذكر منها «صحن الذهب» و»بو الشنب» كما وضع الجيلاني بلحاج يحيى «القاموس المدرسي» وهو قاموس عربي عربي وذلك بالاشتراك مع زميلين له في سلك التعليم الابتدائي وهما بلحسن البليش وعلي بن هادية ليطبع هذا العمل لاحقا طبعات متعددة وبعناوين متنوعة من ذلك مثلا «القاموس الجديد الألفبائي» و»القاموس الجديد للطلاب» وقد تمت الطباعة في كل من تونس ولبنان وله إصدارات أخرى خاصة به على غرار «الزعيم صالح بن يوسف: حياته ونضاله، تاريخ جامع الزيتونة لمحمد بن عثمان الحشائشي (تحقيق)، شيخ الصحافة البشير الفورتي، الكاتب الاجتماعي التيجاني بن سالم، وغيرها من العناوين كما أصدر كتابا مع محمد المرزوقي بعنوان (معركة الزلاج) وكان قد أصدر معه عدة عناوين أخرى كما صدرت له كتب بالاشتراك مع العروسي المطوي ومع حمادي الساحلي وهؤلاء الثلاثة مع محمد اليعلاوي هم من أصدقائه المقربين. وقد ذكر هذا الأخير أثناء مداخلته في أربعينية الفقيد أن الحبيب شيبوب كان يتندّر فيقول أن الجيلاني بلحاج يحيى لا بد له من أحد يتكئ عليه أثناء تأليفه لكتبه.

كما كان الفقيد ينشر كتاباته على صفحات الجرائد وخاصة الصباح والعمل وفي جريدة الجزيرة التي كانت تصدر في جربة وكذلك في جريدة الحرية وخاصة في ملحقها الثقافي. وقد أمكن له بفضل إشعاعه الأدبي والثقافي أن يحرز الصنف الأول من وسام الاستحقاق الثقافي.
إن في رحيل هذا الكاتب خسارة فادحة فقد خسرت تونس مربيا ومثقفا وأديبا وباحثا ومحققا اهتم بأعلام تونس ورموزها ودعم بما كتبه الذاكرة الوطنية بفضل ما قدمه للتراث من خدمة تمثلت في حمايته من الضياع والاندثار.

وعندما التأمت أربعينيته في نادي القصة بمشاركة اتحاد الكتّاب التونسيين فاق عدد الحضور التوقع وقد تم بالمناسبة تقديم شريط وثائقي اُنجز حول الفقيد والتذكير بما كان أهداه للمكتبة العمومية في ميدون من عناوين مختلفة لكتب اصطفاها من مكتبته الثرية وقد تم بمناسبة الأربعينية توزيع كتيب على الحاضرين تضمن صورا ومعطيات وشهادات وتعاليق حول الرجل ومسيرته الأدبية المتميزة.
لقد رحل الأديب الجيلاني بلحاج يحيى عن هذا العالم ولكن آثاره العديدة ظلت دالة عليه لاحق الأجيال ليظل بذلك ثابتا في القلب وحاضرا في الذاكرة.

مراجع حوله
• عز الدين المدني: رثاء على البحر الناثر/ الجيلاني بن الحاج يحيى عشيرا كاتبا – ملحق زخارف ثقافية: 5 و12/ 10 /2010.
• أحمد الحمروني: للوفاء والذكرى: الأستاذ الجيلاني بن الحاج يحيى من أهم أعلام الأدب والفكر – الملحق الثقافي لجريدة الحرية: 29 /4 /2010.
• الحبيب بن فضيلة: الجيلاني بلحاج يحيى أديب أحب الحياة والناس والوطن / ملحق زخارف ثقافية لجريدة الحرية: 8 / 6 / 2010.
من مؤلفاته:
• ترويح النفوس / ط 1 نشر الأطلسية تونس 1996.
• أنيس الجليس / ط 1 الأطلسية تونس 1997.
• النديم / ط 1 دار شوقي للنشر تونس 1999.
• شيخ الصحافة بشير الفورتي: سلسلة ذاكرة وإبداع عدد 22 – وزارة الثقافة 2005.
• الصحافي المناضل سليمان الجادوي – دار سيراس تونس 2007.
• الكاتب الاجتماعي التيجاني بن سالم – سلسلة ذاكرة وإبداع عدد 39 – وزارة الثقافة تونس 2008.
• بو الشنب (قصة للأطفال) – دار اليمامة تونس 1997.
• صحن الذهب (قصة للأطفال) – دار اليمامية تونس 1997.
• القاموس المدرسي (بالاشتراك مع بلحسن البليش وعلي بن هادية) – دار سيراس تونس 2003.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115