Print this page

الحركة البيئية في تونس 16: تكاملية البناء، وسيرورة الإضافة والمراكمات

عرفت البيئة وما تزال في بلادنا جهودا ومحاولات للتأسيس وللتعديل والإضافة، تراوحت بين التطوع الجمعياتي والتفكير النخبوي والعمل المؤسساتي والإداري وأسهمت خلال عقود أجيال من الناشطين بدءا بالكشافين والمهندسين ورواد العمل الجمعياتي وصولا للكوادر العاملة

في مختلف أجهزة الدولة الوطنية بعد الاستقلال.

ومع توالي الأطر المؤسساتية والهيئات المكلفة بالشأن البيئي بدءا باللجنة الحكومية بالوزارة الأولى وصولا للوزارة سنة 1991 مرورا بفترات الإدماج مع وزارتين متجاورتين جغرافيا هما التجهيز والفلاحة,,تتالت التجارب والإسهامات والنجاحات والإخفاقات, وفي الأثناء تكثفت الأدبيات والآثار الموضوعية للسياسات والخيارات على واقع المنظومات البيئية، وعلاقات مختلف الفاعلين ببيئتهم، بما فيها السلطة.

كما تعززت المدونة البيئية التشريعية والفكرية وعرفت التطورات والأحداث، بما فيها المشاركات والاتفاقيات الدولية والأممية، والمنجزات المندرجة ضمن تعهدات دولية على غرار تكريس «الأجندا 21» وإعداد البلاغات والتقارير الوطنية في مجالات مقاومة التصحر وتغير المناخ وصون التنوع البيولوجي.

وعرفت الهيكلة المؤسسية بالخصوص بعث لجنة وطنية للتنمية المستديمة، عملت على تنسيق تدخلات الهياكل والمؤسسات والقطاعات والمجتمع المدني لضمان احترام البيئة واستدامة النمو.
وبصرف النظر عن حجم المنجز وجسامة الهنات، فإن مسار البناء البيئي، عرف إضافة ثرية في مجالي الإطار التشريعي والترتيبي، والهيكلة المؤسساتية المؤطرة لسياسات حماية البيئة والتنمية المستدامة والانتاج النظيف.
كما سجلت خطوات على طريق تنسيق العمل بين الهياكل في اتجاه مشاريع هامة كصون الموارد الطبيعية ودفع التربية البيئية والتأهيل البيئي والطاقة النظيفة والمتجددة والتوقي من الكوارث الطبيعية وغيرها من الخيارات التي استدعت تدخل عديد الوزارات والهياكل كالصناعة والفلاحة والتجهيز.

سلسلة تكامل وذاكرة حية
تحمل عديد المستندات والوثائق، على غرار تقارير وضعية البيئة التي انطلق صدورها سنة 1994 ونشريات أخرى كالمجلات البيئية الخصوصية(مجلة الغابات، مجلة للمياه، مشروع مجلة البيئة,,) معالم منجزات ومراكمات جهود مجموعات من الإطارات والإدارات، حملت أمانة تطوير الفعل البيئي رسميا ومدنيا ، والارتقاء بعلاقة التونسيين هيئات رسمية عمومية ومجتمعية وخاصة، مع بيئتهم، بنسب ووتيرة متفاوتة انفعلت بالإمكانيات المادية ولافنية، والإرادة السياسية، والسياقات والضغوط المحلية والدولية.

ولم تخل أي من الحقب المتتابعة من بصمات واضحة، وقد رسمت منذ أواخر الستينات، مع التفكير في بعث أول جمعية بيئية من رحم الكشافة التونسية الأم الشرعية ومهد الحركة البيئية (على يدي القائد زكرياء بن مصطفى ورفقائه) وبدايات المشاركات الدولية اندراجا في سياق مد عالمي إيكولوجي متنامي (السيدة هيفاء بكار وكوكبة من كوادر الإدارة التونسية واكبت قمة 1972 البيئية الأولى بستوكهولم) وبدايات تبرعم المشروع المؤسساتي البيئي الرسمي من أحشاء الفلاحة (المقاربة البيئية ولدت إيكولوجية، قبل طرح مشاكل النظافة والنفايات وتوابعها) وإنشاء الديوان الوطني للتطهير اللبنة الأولى في جهاز توج قبل 9 سنوات بإنشاء البنك الوطني للجينات(هويته أيضا إيكولوجية بامتياز)، في لحظة مجابهة تحديات صحية ووبائية، ساعد في صدها والقضاء عليها.
كل تلك المراحل والأشواط سجلت أجيالا من المكتسبات، منها ما رسخ ودعم المنجز المتوارث ومنها ما ذهب أدراج الرياح، لغياب الرؤية وصدق العزم، وصواب التخطيط.

غير أن المسار استمر، وترك في المشهد البيئي آثارا غائرة، وأعراض تجربة تونسية فيها الكثير من المؤشرات المضيئة، والمكتسبات المحسوبة للمجموعة، ولثرواتها ومقدراتها ومنظوماتها البيئية الغالية.
هذه المنجزات والقيم المستخلصة مما أقر من سياسات ومبادرات وبرامج يتطلب وقفة تأمل وتقييم جماعية كبرى، تنطلق من تجميع لعناصر الذاكرة، واستعادة لأجزاء من صورة ما جرى.

المشهد البيئي يتطلب إعادة رسم صادقة لملامح هوية بيئية، موازية للهوية الجينية والإيكولوجية الوطنية، تثبت ما أثمر الفعل الجمعي وسياسات الدولة في المرحلة السابقة، قطعا مع سياسة لعن السلف وتخوين الماضي وشيطنة السابقين.

استعادة، لتجديد النفس والانطلاق
لقد عرفت المسألة البيئية في ظل إدارات الساهرين عليها منذ صالح الجبالي والمهدي مليكة وفايزة الكافي ومحمد النابلي مرورا بالحبيب الصيد ونذير حمادة وسالم حمدي والصادق العامري ومنير المجدوب وغيرهم، وبمعية مساعديهم، وشركاء وزارة البيئة إضافات تصاعدية، متفاوتة الأهمية، أكدت أن العمل في البيئة، كما الدولة، تواصل واستمرار ومراكمة.

تواصل الأجيال ضرورة حتمية، وتفاعل النخب القيادية والكفاءات من مختلف الآفاق لخدمة المتجهات والقضايا الوطنية، ترجمة لعقلية حضارية راقية، ترنو لنوع من الاستمرارية في عمل الأجهزة العمومية، وأداء الكفاءات الفنية والسياسية أيا كانت مواقعها، وقد حاولت فكرة حلقات مؤسسة التميمي وسمينرات الذاكرة الوطنية مرارا لفت الانتباه لأهمية الالتفات لما سبق من مسار عبر استنطاق مبدعيها واستضافة فاعليها، في حركات شاذة ونادرة، إذ لم تعتد المؤسسات العمومية تقليد الأسلاف والأخلاف الباقين على قيد الحياة(كما كل وزراء وكتاب الدولة للبيئة) ومن بينهم نخب من كوادر وكفاءات بيئية من وزارة ومؤسسات تحت الإشراف غادروا للتقاعد، ونادرا ما تم الاستئناس بكفاءتهم للمشورة والاستفادة كخبراء استشاريين(متطوعين وبلا مقابل) للإثراء والتوجيه والاقتراح.
تحتاج مقاربة التواصل والتكامل وترشيد الرؤى البيئية لبعث خطط استشارية وهيئات تضم ممثلين للخبرات والكفاءات الغنية بالتجارب والمعارف وبإرادة النصح بعيدا عن رهانات التموقع السياسي.

كما يتطلب هذا التوجه الاستراتيجي بعث منتدى دوري يجمع الناشطين البيئيين والمثقفين والاكاديميين، على غرار «إثنين البيئة» الذي أنشئ قبل عقدين وحرص على ديمومته الأستاذ محمد النابلي، وأثرت حلقاته نخب محلية ودولية من ممثلي المنظمات الأممية القائمة كبرنامج الأمم المتحدة للتنمية ومنظمة (الفاو) وغيرهما.

في ظل تسارع نسق التحولات يمثل المئات من الخبراء والناشطين ومن بينهم متقاعدو منظومة البيئة خزانا غنيا بالطاقات والموارد الخام، الجاهزة للاستغلال، والمتاحة للتثمين لو انتبهنا لذلك.

 

المشاركة في هذا المقال