Achille Mbembe فيلسوف.. والمخاوف الكبرى

بينما كنا منهمكين في قضايانا... خاصة السياسيين فنجد المناظرات والأسفار من مصادر موثوقة حول رحيل الحكومة الحالية والأعمار المضادة من مصادر موثوقة طبعا حول مواصلة الحكومة ورئيسها عملهم جاء مسلسل مؤتمر النهضة الذي

أخذ وقت كل المتابعين للوضع العام وصار حديث كل الناس وأصبح التساؤل حول مدى جدية الحركة في الفصل بين الدعوي والسياسي في جوهر النقاشات والجدال السياسي العام. وهكذا شيئا فشيئا أصبحت قضايانا اليومية السياسية وحتى الأحداث الإجرامية محل اهتماماتنا الأساسية وتراجع معها الاهتمام بما يدور خارج هذه الدائرة الضيقة والصغيرة جدا من الأحداث.

غير واضح ولعل هامش الحرية الكبير الذي فتحته الثورة جعل اهتمامنا ينصبّ بصفة خاصة على قضايانا الداخلية وبصفة خاصة اليومية منها على حساب ما يصير في العالم إذ استثنينا بعض القضايا كالاعتداءات الإرهابية الكبرى. وهذا يعتبر تحولا بعد الثورة باعتبار أن اهتماماتنا كادت أن تكون مقتصرة في السابق على الأحداث العالمية باعتبار فقر الحياة السياسية والفكرية الداخلية مع هيمنة الحزب الواحد والفكر الواحد ومحاولة النظام السابق السيطرة على هذه المجالات والتقليص من هامش الحرية والتعدد. فكنا نتابع الانتخابات في البلدان الديمقراطية ونخوض في أدق جزئياتها لنعيش الديمقراطية بالتفويض. كما كنا نهتم بالإصدارات الأدبية في فرنسا وغيرها وتقدمها لنا صحفنا ونخوض حولها الجدالات وتبقى قراءة ونقاش آثارنا الأدبية وبصفة خاصة الناقدة فيها للأوضاع السياسية حبيسة مجالاتنا الذاتية ونترك الآخر للفضاء العام. وقد كانت الثورة والحرية التي نعرفها مفعولا عكسيا من حيث تركيز اهتماماتنا على الذات وعلى أنفسنا في الفضاء العام وانسحاب الآخر على أطراف أصابعه من جدول وأولويات نقاشاتنا وتفكيرنا.
ولعل أهم حدث عشناه على المستوى الفكري على المستوى العالمي هو صدور كتاب مفكر شاب وفيلسوف سيكون في تقديري في السنوات القادمة احد أهم مفكري عصرنا وهو الكامروني الأصل والذي يدرّس اليوم في أهم الجامعات العالمية من إفريقيا الجنوبية إلى أمريكا وأوروبا Achille Mbembe (أشيل مبمبي) وعنوان كتابه « les politiques de l'inimitié » والصادر عن دار la découverte وستبدأ ترجمات هذا الكتاب إلى اللغات الأخرى في الصدور تباعا.

فكان الأسبوعان الماضيان مؤثثين بالأخبار والمقالات والمقابلات الإبداعية والحوارات التلفزية مع هذا الفيلسوف والمثقف حول إصداره الجديد وقراءته للتحولات الكبرى التي يعرفها عالمنا اليوم. وتكاد لا تخلو مجلة أو جريدة أو قناة تلفزية أو إذاعة في الأيام الأخيرة من تقديم لهذا الكتاب أو لحوار مع المؤلف. والتقت كل هذه التغطية الصحفية والمتابعات حول مسألتين هامتين: الأولى أن هذا الكتاب كسابقيه لنفس المؤلف هام ويقدم قراءة مبتكرة وجديدة لعالمنا اليوم والثانية أن هذا الكتاب هو لبنة جديدة على طريق بروز أشيل مبمبي كأحد أهم مفكري عصرنا.

عرفت أشيل منذ سنوات طويلة واشتغلنا مع بعض في المجلس الأعلى للعلوم الاجتماعية في إفريقيا. كانت تجربة هامة في تكويني الشخصي حيث فتحت آفاقي على العلوم الأخرى كالتاريخ والسياسة والفلسفة وعلم الاجتماع مما ولّد عندي نظرة أخرى للاقتصاد تختلف عن النظرة السائدة والتي تختزل العلوم الاقتصادية في بعض المعادلات الرياضية وتنفي عنها كل عمق اجتماعي أو سياسي. عرفت إذن أشيل في نهاية القرن الفائت بعد أن كنت طالعت بعض كتاباته في السابق في بعض المجلات العلمية وقد أبهرتني سعة اطلاعه وعمق ثقافته المعرفية وقوة الحجة في تحاليله وبداهته وذكائه الفائق. إلا أن الملفت للنظر في هذه الشخصية الكاريزماتية هو تواضعه الذي يتجاوز كل الحدود وروح الدعابة التي تميزه والذي يجعل النقاش والحديث معه ممتعا أيّما إمتاع وكذلك احترامه للآخرين مهما كان مستواهم العلمي أو وجاهة تحاليلهم. أما الجانب الذي قرّبنا من بعضنا البعض فهو اهتمامه بكرة القدم وسعة اطلاعه على دقائق الأمور اللاعبين والفرق ومتابعته لأهم المقابلات الكروية وهو ما يعد نشازا عند أعداد كبيرة من المثقفين.

سأغتنم فرصة صدور هذا الكتاب الجديد للحديث عن ثلاث مسائل هامة في هذا المقال. المسألة الأولى هي وضع أشيل مبمبي في إطاره وبصفة خاصة في إطار ما يمكن أن أسميه الظاهرة الفكرية الجديدة في إفريقيا والتي تنخرط بشكل عام في الإطار لما بعد حداثي فالمفكر الذي نحن بصدده في هذا المقال هو جذع من شجرة وهذه الشجرة هي هذه الظاهرة الفكرية الجديدة التي ظهرت في إفريقيا والتي جذبت اهتمام العالم لها بقوة تحاليلها وخروجها بل وثورتها على الأنساق الفكرية السائدة مما دفع أكبر الجامعات العالمية وبصفة خاصة الجامعة الأمريكية تتنافس على هذه الأسماء اللامعة في المجال الفكري وتسعى لاستقطابها للتدريس والبحث نظرا لقناعاتها أن هؤلاء المفكرون يقومون بعملية تجديد كبرى للفكر العالمي في وقت نضب فيه معين المفكرين في المركز. وهنا أود الإشارة فقط إلى بعض الأسماء والمواقع التي يتبؤونها في كبرى الجامعات العالمية لنفهم أهمية هذه الظاهرة الفكرية. فأشير أولا إلى الفيلسوف سليمان بشيرديان souleymeine Bachir Diggne وهو من السينغال وبعد قضاء سنوات في التدريس بين فرنسا وداكار استقر في الولايات المتحدة حيث يدرّس في جامعة كولومبيا الشهيرة وكذلك الشأن بالنسبة لمواطنه أستاذ التاريخ مامادو ديوف mamadou Diouf أما أستاذ العلوم السياسية محمود ممداني mahmoud mamdani زوج المخرجة الكبيرة ميرانايير الاوغندي من جذور باكستانية فبعد سنوات من الترحال بين عديد الجامعات الإفريقية فقد هاجر إلى أمريكا واستقر في جامعة كولومبيا.

كما عرف أستاذ العلوم السياسية عثمان كان ousman kan وهو من السينغال نفس التجربة واستقر في جامعة هارفارد بعد سنوات من التدريس بين معهد العلوم السياسية في باريس وجامعة داكار. أما أشيـل مبمبـي فـقد درّس في أهم الجامعـات الأمريكيـة ككـولومبيا وبال Benkley وkaye وduke وكاليفورنيا كما استضافته أهم مؤسسة بحثية أمريكية هي broobings لقضاء بعض الأشهر في البحث في مدينة واشنطن ويمكن أن أشير الى عديد الأسماء الأخرى في كافة الاختصاصات وتهافت الجامعات الأمريكية على «اقتناص» هذه الأسماء اللامعة مع المفكرين الأفارقة.

وهذا الاهتمام يجد جذوره في البرنامج الفكري الذي انخرط فيه الكثير من هؤلاء المفكرين وهذا البرنامج ينطلق من محاولة فهم لأزمة الحداثة ومشروعها الفكري والسياسي وهذه الأزمة حسب هؤلاء المفكرين تكمن في محاولة الفكر الحداثي وبصفة خاصة الفلاسفة الأوروبيين بمختلف مشاربهم من كانط إلى هيقل وماركس اختزال التجربة الإنسانية في تجربة الأنا الأوروبي والذي يفوق ويتميز على كل التجارب الإنسانية الأخرى. ويقود هؤلاء المفكرون من منطلقات مختلفة مشروعا نقديا راديكاليا للفكرة الأساسية للبرنامج ومشروع الحداثة والذي يقوم على فكرة علوية ومركزية التجربة الأوروبية واعتبارها الطريق الوحيدة لدخول الآخر للتاريخ وبناء التجارب الإنسانية الأخرى. وهذه الأسس والفكرة المركزية في برنامج الحداثة ترفض وتنفي الآخر ولا تفتح أي مجال للتفتح على خصوصية تجربته.

ويرى هؤلاء المفكرون وبالرغم من اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم أن هذه الفكرة الأساسية لمشروع الحداثة واختزال التجربة الإنسانية في تجربة ومركزية التجربة الأوروبية هي وراء أزمة هذا المشروع وطابعه التسلطي وإن أردنا الإمبريالي فهذه الفكرة تؤسس لرفض الآخر والتعالي عليه وفتح الباب له إلا إذا قبل بعلو ومركزية المشروع الحداثي الأوروبي.

وحسب هؤلاء المفكرين فمسألة رفض الآخر والتعالي عليه لأسباب عرقه أو للون بشرته أو لدينه ليست قضية سياسية مرتبطة بصعود قوى أقصى اليمين العنصرية بل هي في جوهر وأحد أسس البرنامج الحداثي والمركزية الأوروبية.

ويجد هذا النقد منطلقاته عند إدوارد سعيد في كتابه الشهير «الاستشراق» والذي أسس لتجربة فكرية جوهرية وشكّلت قطيعة ابستمولوجية مع الفكر السائد والذي يرتكز على فكرة أن التقدم هو أساس حركة العالم وأن هذا التقدم سينطلق من المركز ليشمل الأطراف وقام سعيد بنقد هذه الفكرة الأساسية للحداثة الأوروبية باختزالها تجربة الآخر في ديناميكية الأنا. وقد أكد سعيد أن بناء علاقة جديدة وانفتاح وتعاون حقيقي بين الأنا والآخر والشعوب بصفة عامة يكمن في تجاوز هذه الفكرة الحداثية الأصلية وفتح الكوني على تجربة الآخر وتعددها وخصوصيتها.

وقد انخرط عديد المفكرين الأفارقة في هذا المشروع النقدي الما بعد كولونيالي وطوروه وأعطوه بعده السياسي وطالبوا ببناء حداثة من تحت une modernité d’en bas تقطع مع الحداثة الأفقية التي سعى المثقفون والفلاسفة الأوروبيون إلى بنائها والدعوة لها منذ قرنين. وهذه الخصوصية والحركة النقدية التي أسسها سعيد وواصلها عديد المفكرين وخاصة المفكرين الأفارقة الجدد مكنتهم من الخروج من خصوصيتهم الجغرافية لخوض مشروع فكري كوني جعلهم محل اهتمام العالم بصفة خاصة في فترات الهزات والأزمات التي تعرفها المجتمعات الديمقراطية وبصفة خاصة مشروع الحداثة الأوروبي.

المسألة الثانية التي أريد الخوض فيها هي تجربة الصديق أشيل مبمبي والتي تبقى رائدة ضمن هذه الهبّة الفكرية في إفريقيا. أهمية عمل هذا المفكر أنه انطلق من هذا البرنامج النقدي لقراءة التحولات الكبرى التي يعرفها العالم ويعود في مؤلفه الجديد والصادر منذ أسبوعين تحت عنوان «les politiques de l’inimitié » أو سياسات الكراهية أو العداوة والكراهية ويقصد هنا بالسياسات التي يتم إتباعها من عديد البلدان كحالة الطوارئ من أجل حد الخطر الذي يمثله الآخر. ويؤكد المفكر على التحولات الكبرى الذي يعرفها العالم كالتقلص الشديد في العالم الذي لم يعد ذلك العالم الشاسع والكبير الذي نعرفه. والعالم الجديد الذي نعرفه هو إحدى نتائج التطور التكنولوجي الهام الذي نعرفه والذي قلّص الزمن والمسافات وجعل من العالم الشاسع للأمس قرية صغيرة وقد أثرت هذه التحولات والتطورات الكبرى على الإنسان وجعلتنا ندخل تجربة جديدة استفاد منها البعض بتكديس الثروات بينما تركت الكثيرين مهمشين وعلى حافة الطريق.

وقد فتحت هذه التحولات على أهميتها وبالرغم من جوانبها الإيجابية فترة هامة تتسم بالخوف والرهبة من الواقع الجديد وانعكاساته على التجربة الإنسانية فكان الالتجاء للمقاومة والعنف لمحاولة إيقاف هذه التطورات والانسحاب منها وكأن البقاء خارج حركتها يؤمننا من أخطارها.

وكان لهذه المخاوف الكبرى والحيرة من القادم المبهم والغامض انعكاس على المجتمعات الديمقراطية فقد أحبط ثقتها في مؤسساتها وفي قدرة الديمقراطية على إعادة الأمل في المستقبل وفي تجاوز هذه المخاطر والصعوبات ولم يقتصر هذا الشك على المؤسسات بل مس حتى المشروع الحداثي وفكرة علو ومركزية الأنا الأوروبي.

وفي هذا الإطار حاول المركز إعادة إنتاج نفسه من خلال إعادة بعث فكرة الآخر العدو فبعد اليهودي في الحرب العالمية الثانية والشيوعي في الحرب الباردة أصبح المسلم والعربي هو العدو القادم الذي يهدد استقرار المركز الأوروبي ومؤسساته وبرنامجه الحداثي.

ولمجابهة هذا العدو والخطر الخارجي الذي يتربص بالمركز الذي أصبح كالقلعة المهددة من جانب فلا بد من وضع سياسات الكره والتي تبدأ من شن الحرب على الآخر إلى رفض ومحاولة منع دخوله بكل الطرق للمركز المحاصر وهذه السياسات أو les politiques de l’inimitié تساهم في خروج المركز من الديمقراطية والذي وضعها كأحد أسس برنامجه الحداثي.

بالرغم من نقده الراديكالي لسياسات البلدان المتقدمة فقد حاز هذا البرنامج الفكري على اهتمام المؤسسات الفكرية في البلدان المتقدمة وبصفة خاصة أهم الجامعات الأمريكية وسعت إلى جلب أهم المفكرين والحاملين لهذه الرؤية النقدية كي يواصلوا بحوثهم ودراساتهم لعل نتائجها تساهم في تجديد التجربة الحداثية والديمقراطية في هذه البلدان.

والنقطة الثالثة والتي أريد الختام بها وهي لماذا لم تتمكن المنطقة العربية من إعادة تجديد فكرها وبناء منظومة فكرية جديدة تجلب لها اهتمام العالم وتساهم في إعادة بناء الفكر العالمي والتجربة الإنسانية والكونية؟ ولقد وجدت بعضا من الإجابة على هذا السؤال في بعض النقاشات مع صديقي أشيل مبمبي والمفكرين الآخرين الذين يشيرون أن سر هذه الغزارة الفكرية تجد بعضا من تفسيرها في التحرر من المؤسسات الرسمية وإعطاء الحرية المطلقة للفكر دون قيد أو شرط. فهل فشلنا أين نجحوا؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115