منبر: عندما يسوم القيمَ الإنسانية كل رخيص!

واليوم ينتفض ناعق آخر يسوم المعاني الإنسانية التي تبني تقرير الحريات والمساواة.. تقرير رغم ما اشتمل

عليه من اعتدال وتنازلات لفائدتهم فإنّهم رافضوه.. رافضوه.. كان بالإمكان أن أقرَأَ بيانهم وأمرّ.. لكن نظرا لما يحمله من إشارات وطعون تمسّ المبادئ الكونية التي نعمل على تركيزها في حياتنا العامّة.. ونظرا لصفة من نطق.. «عن هوى» فإنّي ملزمة بالكلام، وأعتبر السكوت جبنا وخوفا قد يسهمان في مواصلة هؤلاء الاجتراء علينا..

مرّت قافلة «الخادميين» بعد أن ملأت الجوّ صراخا، ودوّت لها حيطان النزل الفخمة، وبعد أن احتمى بها من لم نسمع له صوتا.. قافلة أناخت بجمالها في أرجاء جامعة هي من صلب وزارة التعليم العالي.. وتموّل من المال العمومي، أي من مالنا نحن التونسيين والتونسيات، وبدل أن تغذّي النفوس وعقول الشباب أفرغتها من الحبّ لتملأها كراهية وقتلت فيها التواضع لتبني فيها صرح الغرور و الأنا المريض، صرح نحن الأفضل والآخر الأسوأ، ولتبني فيها هرم الرجل الذكر الأعلى والمرأة المعوجّة الأنثى.. مرّت هذه القافلة ولكنّها تركت أثرا على رمال طريقها، يستأنس به من وهن عظمه عسى أن تُبعث حياة في أعضائه، لكن حذار عن أيّة حياة نحن نتحدّث؟ إنّها حياة القرون الوسطى بعثوها من القبور، ونصّبوها هاديا لمجتمع القرن 15هـ/ 21م ، وغاب عنهم أنّها تحمل معها روائح الموت والدمار والتخلّف، روائح لا ترى للحرية او المساواة وجها، لأنّها سليلة الطاعة والذلّ والعبوديّة..
واليوم يَجمع ما يسمّى بالمجلس الإسلامي الأعلى ما بقي له من أنفاس ، فإذا به منحلّ القوى.. لا تقدر رجلاه على حمل جسده وقد نخر الدود عظامه.. ليدلي بكلمته في تقرير الحريات.. في ظنّه هي كلمة عصماء فإذا بها مهترئة أصدرتها جهة ليس لها سوى إرضاء نفوس أهل الأمر..
إنّ ما يستوقفني في هذه المسألة قضيتان اثنتان:

الأولى تتعلّق بقانونية هذا الذي يسمى بالمجلس الإسلامي.. وفي هذه القضية أكتفي بالإحالة إلى مقالي الأخير بجريدة المغرب « إنّها ردّة وربّ الكعبة»؛ فقد ذكرت فيه بشيء من التفصيل تاريخ هذا المجلس الراجع بالنظر إلى رئاسة الحكومة، ونبّهت إلى المخاطر التي قد نقع فيها لما يمتلكه من مشمولات.. لكن يبدو أنّ من يشرف على موقع رئاسة الحكومة تخيّر حلاّ يقي وزارة السيادة حرج الخلط والتناقض فارتأى أن يغيّب هذه المؤسسة من الموقع.. وبحثت عن موقع رسمي لها فلم أجد سوى صفحة «رسمية « على موقع الفايسبوك.. وتدفعني هذه الملاحظات إلى التساؤل عن مصير هذه المجلس الذي يعيش حالة غيبوبة لا تبعث على الإطمئنان، والدليل على ذلك استفاقته الأخيرة في هذا النصّ.

القضية الثانية تتعلّق بالنصّ في حدّ ذاته: وأنا أسأل هل يوجد فرق بين النصّ الذي قدّمته قافلة « الخادميين» ونصّ « العلماء»؟ أليس هو نفسه؟ سواء في الحديث عن التغريب ، وإنكار القيم الإسلامية أو في التنبيه إلى المخاطر التي تحدق بالتونسيين فيما ينمّ عنه هذا التقرير من نيّة في تغيير بنيته الفاضلة المفضّلة والفضلى؟ وإذا ألا يكون جميع هؤلاء « يغليو في طنجرة وحدة» ويحرّكهم « مغرف واحد؟ وإذا كان الأمر كذلك فماهو هذا المغرف؟

بباسطة، ويا سيداتي وسادتي ، هذا المحرّك أو سمّه مغرف ليس سوى ذاك المجلس الإخواني الذي انتشر في جسدنا التونسي انتشار النار في الهشيم، بما يقدّمه من دروس وندوات دعوية، وبما يراه في نفسه من قوّة كابحة لكلّ عملية تصحيح.. يد هذا المجلس طالت مجتمعنا بجميع طبقاته ودون استثناء: الجاهلة منها والمثقفة بل وحتى العالمة والسياسية.. ورغم تنبيهنا لمخاطره لم نجد سوى الصمت واللامبالاة، ولم يخلد البتة في ذهن المسؤولين أن صمتهم عائد بالوبال عليهم رأسا وقبلنا نحن، لأنّهم لا يقدرون علينا قيد أنملة.. أمّا في سكوت المسؤول عليهم سماح لهم في أن يرتعوا في أرضنا وفي أفكار نسائنا ورجالنا وأبنائنا و بناتنا.. وهاهي نتائج أوامر القرضاوي بدأت تؤتي بثمارها.. فالرجل « لقى البلاد خالية» انطلق يرتع في بيوتها ومساجدها وجامعتها الزيتونية بالأساس، وأمر أعضاءه بالانتشار لقتال هذا العدو الذي قد يتمكّن بالعقول..

إنّ القرضاوي وجماعته ارتأوا الركوب على التقرير حتى يسكتوا الأفواه مرّة واحدة، وحتى لا يتكلّم غيرهم.. حاربوا الحياة بما تحمله من معاني الحرية والمسؤولية حتى يضمنوا التراخي والتواكل والفشل وجرّ ذيول الخسران.. لأنّهم غير قادرين على العيش سوى في المستنقع..
كلمة أخيرة أوجّهها إلى السيد رئيس الجمهورية وإلى مجلس النواب و رئيس الحكومة: أنيرونا حتى نفهم.. ماهي مكانة هذا المجلس في رئاسة الحكومة؟ هل جُمّد؟ وهو أضعف الحلول، وعندئذ ، هل للجهات المؤسساتية علم بأنشطته؟ أم هو يتصرّف حرّا طليقا؟ ومتى ستأتينا بشائر التحرّك ضدّ علماء الإسلامويين الذين ما انفكّوا ينشرون إيديولوجيتهم بمال البترول في مؤسساتنا التعليمية سرّا وجهرا؟ خشيتنا أن يأتي يوم وتعيش فيه جامعتنا فوضى قد تبلغ درجة التنافر والاقتتال.. فرجاء وإن كنتم تحملون بذرة حبّ لتونس : أخرجوا هذا الطاعون من أرضنا قبل فوات الأوان.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115