في الدنيا وما فيها من تفاهات: إعجاز النصّ من عجز القرّاء (5)

ترى عزيزي القارئ. أحيانا، نادرا، أعطي رشوة. أحيانا، أكون منافقا. مع الادارة التونسيّة، أنا دوما مهادن. مع السنين، مع الناس، أصبحت

عبدا متقلّب السيرة، متعدّد الوجوه. أحمل ألوانا. مع الزمن، أصبحت مدهونا. كلّ انسان ليحيا، يحمل في قلبه طلاء. يؤسّس لنفسه أنماطا. الانسان تعدّد. في كلّ فرد هناك أفراد. الانسان تقلّب. هو حركة. هو أحوال. لا ثوابت فيه ولا حدّ ولا قرار. لا يعرف فؤاده سكونا ولا استقرارا...
مع رئيس المصلحة ومع غيره من الأطراف، كان عليّ أن أهادن. أن أنافق، أن أساير الظرف. مع الشرطيّ، كان عليّ أن أعطي رشوة. في عديد الحالات، أصبحت أغمض عينيّ حتّى لا أرى ما كان من ظلم ومن ظلمات... لكي تحيا مع الناس، عليك أن تعيد شاكلة الذات، أن تسوّي النظر وتعدّل الأفعال. يجب أن تحمل قناعا. الانسان قناع. لتحقيق المقاصد، كلّ الأقنعة، كلّ الألوان مباحة. اختر من الألوان ما شئت وأفضل الألوان ذاك المحقّق للغايات... أحيانا، تجتهد فتختار من الأقنعة ما تشاء فلا أحد يتبيّن ويضيع جهدك والغايات. أحيانا، صدفة، قد يلقى طلاؤك قبولا واستحسانا وتنجز ما ارتأيت من أهداف...
٭٭٭
ما كنت أحسب أنّ في الباب الحديديّ إشكالا. ما كنت أرى في ما كتبت في ذاك المقال غموضا أو إبهاما. لكن القارئ يمشي به الظنّ والخيال حيث شاء. أحيانا، ألقاه في سبل مختلفة. يرى ما لا أرى. يتبيّن ما لم أقل. بين القارئ والكاتب هناك تباين وفرق. هناك اختلاف في السبل، في الألوان، في الغايات...
أحيانا، أكتب أشياء فأختار لها من المفردات ما هو جليّ ومن التراكيب ما هو بيّن. أجتهد في انتقاء المفردات، في صياغة الجمل، في صنع الكلام. أعيد قراءة الكلام. فحوى الكلام، في ما أرى، جليّ، واضح. لكن القارئ يفهم ما أراد ويتبيّن المفردات والجمل، كما شاء. أحيانا، غالبا، ألقاه في اختلاف مع ما شئت من مقاصد ومع ما اتّخذت من سراط. في الغالب، يكتب الكاتب كما شاء ويدرك القارئ ما شاء. غالبا، لا تلتقي مشيئة هذا بمشيئة الآخر. غالبا، هما خطّان متوازيان...
تنظيم الكلام هو صناعة من نتاج صاحبها، خصوصيّة. فهم الكلام هو صناعة من نتاج صاحبها، خصوصيّة. لا علاقة قائمة بين صناعة الكلام وصناعة الادراك. لكلّ صناعة منهج وخصوصيّات. لا صلة بين المتكلّم والمتلقّي في تحديد البيان، في ضبط فحوى الكلام. لكلّ طرف معجمه. لكلّ واحد دلالاته. لكلّ تمثيليّة وسبل وغايات...
هذا الاختلاف في صناعة الكلام وفي فهمه، مأتاه المفردات. لا تحمل المفردات معنى محدّدا، تامّا. المفردات كائنات حيّة، غير مكتملة الدلالة. تتلوّن، يتشكّل فهمها حسب مواضعها في الجمل، حسب الأفراد، حسب الزمان والمكان. المفردات اللغويّة كالماء يسري. فيها انفلات، فيها انسياب. المفردات زئبق رجراج...
أنظر في معنى المفردات، في المعجم، سوف ترى ما في المفردة من معاني، من وجوه، من دلالات متقاربات ومتباينات. كذلك، يأتي الكلام دوما سائبا، بدرجات. فيه نقص وارتجاج. نصفه جليّ ونصفه ضباب. كلّ فرد يتمّمه بما كان له من مخزون ومن تمثيليّات. كلّ يحمّله ما ارتأى من أوجه، من معاني، من دلالات. النصّ شبكة مفردات وفي المفردات دوما ضبابيّة. في النصوص، لا وجود لمعنى ثابت، واحد، مشترك، عامّ. تجاه النصّ، يلقى كلّ قارئ ما شاء من الفهم المختلف وله ما اجتهد من استخراج المعاني. كذلك، يكون النصّ متعدّد الفحوى والدلالات. يحمل آفاقا متباينات، أوجهها متعدّدات...
٭٭٭
كلّ متلقّ يؤسّس النصّ حسب ذاته. لا يهمّ ما ابتغاه الكاتب من معنى وما ضمّنه من غايات. المتلقّون هم من يعطي للنصوص كينونة وماهيّة وحياة. كتبة النصّ هم في النهاية القرّاء. القرّاء هم من سوف يرى ما ضمّه النصّ من جماليّة أو قبح، من جودة أو فساد... النصوص هي سلع كغيرها من السلع. هي بضاعة وفي السوق، في أعين القرّاء، تتقرّر قيمة البضاعة، تزدهر أو يصيبها كساد... إنّ جودة المنتوج، كما نقول في علوم التصرّف، يصنعها المستهلكون، بما كان لهم من شراء. قيمة النصوص ليست من فعل صنّاعها بل يحدّدها سوق القرّاء ولا أحد سواهم...
يبقى السؤال: كيف يباشر القرّاء النصوص وكيف هم يقيّمون الجيّد منها والرديء؟ أنا أكتب نصوصا. أبعث بها في الأسواق. يقرأها الناس. فكيف يراها الناس؟ منذ زمن قريب، أصدرت كتابا أوّل في علوم التصرّف لطلبة الجامعات وكتابا ثانيا سمّيته «ورقات». في كلّ مرّة أنتج نصوصا، تراني حريصا على بذل المستطاع، على السعي حتّى يكون الانتاج حسنا، كامل الأوصاف. كلّ مرّة، أسأل نفسي هل أتيت جودة، هل سوف تلقى نصوصي إقبالا؟
رغم ما بذلت من حرص ومن عناية، لم تلق نصوصي في السوق إقبالا. بعد عسر، بعت من النسخ ما يكفي تقريبا لتسديد النفقات. لا يهم، ما كان من خسارة. الأهمّ عندي معرفة ما يريده القرّاء. دوما أسال: ما هي السبل لإنتاج نصوص فيها جماليّة وبلاغة حتّى تلقى في الأسواق رواجا؟
حيّرني السؤال. سكنني السؤال. نظرت في ما جاء من نصوص مميّزة حتّى أتبيّن ما فيها من جماليّة، من بلاغة، من إعجاز... لو أدركت ما في هذه النصوص من قوّة ومن جمال لاتبعت منهجها وأنتجت مثلها نصوصا لها رواج... أفضل مثال في جماليّة النصّ وفي حسن بناء الكلام ما القاه في القرآن. كلّ الخصال جميعا تلقاها في نصوص القرآن وهذا ما أكّده الناس مرارا، قديما وحديثا... كيف بني القرآن وأين يكمن فيه الاعجاز؟ لو أدركت ما في القرآن من سبل البلاغة ومن أدوات الإعجاز، ربّما استطعت، مثله، بناء نصوص بيّنات تلقى في السوق رواجا.
٭٭٭
القرآن هو نصّ، هو كلام شكّلته الجمل والمفردات. لا تحمل الجمل والمفردات بيانا واضحا، تامّا. المتلقّي هو المؤسّس لفحوى الجمل والمفردات. حسب ما له من تمثيليّات، كلّ متلقّ يتبيّن الكلام، يحدّد الدلالات. كذلك، جاءت تفاسير القرآن متعدّدة، فيها تباين واختلاف. شرح السيد قطب للنص القرآنيّ يختلف فحوى ودلالة عن شرح الطاهر بن عاشور رغم كونهما عاشا في نفس الزمان. الفرق كان في ما كان للشارحين من مخزون لغويّ ومن أحوال. قرأ بن عاشور النصّ وهو في نعيم، هانئ البال وخطّ السيد قطب كتابه وهو بين عسس ومعتقلات، فجاء الشرحان متباينين. فيهما اختلاف...
ككلّ النصوص، لا يحمل النصّ القرآني فحوى محدّدا، دلالة واضحة المعالم. القارئ هو المؤسّس لمضامينه وفحواه حسب ما كان له من تصوّر ومن مخزون ومن حال. القارئ هو الذي يبعث فيه، يستنبط منه ما رأى من مقاصد ومن معاني... عند السيد قطب وعند بن عاشور وعند كلّ من تولّى من المسلمين شرح القرآن، كلّ يلقى فيه ما كان يحمل من تمثيليّات، من خصوصيّة، من اشكالات. النص هو وليد قارئه... لكنّ الشارحين جميعا يتّفقون حول ما يحمله القرآن من بلاغة ومن إعجاز. كيف استوفى هؤلاء هذا الإعجاز؟ هل في السور وفي الآيات حقّا بلاغة وإعجاز؟
إن النصوص لا تتكلّم وإنّ القارئ أو الشارح هو المولّد فيها ما شاء من الصفات ومن الدلالات. كذلك، الاعجاز ليس في النصّ القرآنيّ بل يكمن في ما كان يدور في رؤوس الشرّاح من إيمان حاصل. يؤمن هؤلاء كلّهم بالإسلام وبأنّ النصّ القرآني هو سماويّ المصدر، من صنع الالاه. هذا الكلام الالاهي هو مقدّس وهو على أحسن تقويم وبنيان. الاعجاز اذا هو من نتاج المتلقّي، لما كان في قلبه من قناعة ومن إيمان. كذلك، أصل الاعجاز ليس في النصّ، بل هو سابق للنصّ. هو شعور أو اقتناع قائم بعد في الفؤاد. هو نتيجة لاعتقاد...
لو أعطينا النصوص القرآنيّة لغير المسلم، هل سوف يلقى هؤلاء في القرآن قولا ثقيلا وإعجازا؟ لو قرأ هؤلاء النصّ وتبيّنوا لوجدوا في القرآن دلالات أخرى ولن يروا فيه بلاغة ولا إعجازا... في لبنان وسوريا، هناك مسيحيّون لهم بالعربيّة تمكّن. من قرأ منهم القرآن، لن يلقوا في النصّ قوّة أو إعجازا... إعجاز النصوص، كلّ النصوص، هي أساسا من نتاج القرّاء، اصلها من «عجز» القرّاء...
قد يعترض البعض ويقول هناك اعجاز علميّ في القرآن وهذه آيات بيّنات، تثبت ما أكّدته العلوم وما ظهر من اكتشافات... النصّ القرآني هو نصّ ديني جاء ليبيّن للناس كيف العيش المشترك وكيف تؤدّى العبادات. لا صلة ولا علاقة له بالعلوم. لكلّ واحد مقام. للدين مناهج وخصائص. للعلوم مناهج وخاصّيّات. على خلاف الدين «الصالح لكلّ زمان ومكان»، العلوم تتطوّر. هي نظريّات تنسخ بعضها بعضا. لا تعرف نهاية ولا استقرارا. ثانيا، موضع النظر عندي هو الاعجاز اللغوي وكيف أنّ النص القرآني فيه قوّة وبلاغة...
دعنا من القرآن فالنصّ القرآني، لمن كان مسلما وفي قلبه إيمان، هو منزّل من السماء وفيه ضرورة بلاغة وإعجاز. فلننظر في غيره من النصوص الأخرى، تلك التي يلقى فيها القرّاء جماليّة وبيانا. لماذا يلقى شعر الشابي مثلا والمتنبّي و«الأيّام» لطه حسين وكليلة ودمنة لابن المقفّع... قبولا واستحسانا؟ ماذا في هذه النصوص من خصوصيّات حتّى تلقى قبولا وحظوة في الأسواق؟ يجب أن أرى ما فيها من جماليّة، من منهج، من مفردات حتّى أكتب مثلها وألقى في السوق قبولا وترحابا...

(يتبع)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115