في الدنيا وما فيها من تفاهات : في رحاب الإدارة التونسيّة (2)

مرّة، كتبت مقالا، نشرته في جريدة المغرب حول أحداث عاديّات. هي وقائع تافهات...

«لماذا يا أستاذ تكتب تفاهات وأنت تعلم علم اليقين أنّها تفاهات؟ هل تلقى في التفاهة طرافة؟ لا تقل إنّ في التفاهات حياة…» لا أدري لماذا أكتب تفاهات. لا أدري لماذا أحبّ الكتابة في ما لا ينفع الناس. لعلّ ما ينفع الناس ينشأ من تلك التفاهات. أفليست الحياة كلّها تفاهة؟ قد يكون. لا أدري لماذا أحبّ الكتابة في مواضيع عاديّة، في أحداث تعترض، كلّ يوم، سبل الناس. سوف أمعن النظر وقد أجيبك لاحقا على السؤال. ان لم أنس السؤال...

أمّا الآن فلننظر أيّها القارئ في أمر مقال كتبته منذ سنين حول أحداث بديهيّات. كتبت النصّ حول لقاء مقرّر كان لي مع مدير المدرسة العليا للأمن بوزارة الداخليّة. في المقال، في ما أذكر، كتبت أشياء متفرّقات. ذكرت في النصّ كيف هيّأت نفسي للقاء وكيف طرقت باب مكتب المدير وانتظرت طويلا جوابا. في ما أذكر، أطلت القول في الباب. لا أدري لماذا أطنبت، في الباب الحديديّ وفي أقفاله، الكلام. علّني كنت وقتها في قلق. علّني لم ألق فكرا لمواصلة الكتابة فأوقفت حماري على عتبة الباب. كتبت المقال منذ زمان. نسيت المقال. مرّت سنون. انتهت صلاتي بالأمنيين. انتهيت من تدريس إطارات الداخليّة وانقطعت بالوزارة علاقاتي. بقي المقال منشورا بين الناس...

تلك هي قوّة الكتابة. تكتب يوما نصّا في موضوع ما. تصف فيه ما شئت من الأحداث. تخرجه للناس. يجري النصّ في الأرجاء. يحلّق في السماء. يقرؤه الناس. بعض الناس. تمرّ السنون. تنسى ما كنت كتبت ويبقى النصّ قائما، حيّا، تتقاذفه الأيدي ويعيده اللسان. يمشي النصّ في ذاكرة الناس، محفوظا، لا يمسّه نسيان...

الكتابة بقاء. الكتابة مسمار في نعش الزمان. أنا أكتب حتّى لا يأكلني الزمان. أنا أكتب حتّى أبقى على قيد الحياة، حتّى لا أموت ويحملني النسيان. أنا أخاف الموت وأعشق الحياة. أنا أحبّ هذه الدنيا الدنيئة وما فيها من عسر ومن ظلمات. كلّ الناس يهابون الموت ويغنّون للحياة. ما من بشر عاقل في الأرض يكره الحياة. الكلّ يسعى للبقاء. كذلك، كلّ كدّ، كلّ جهاد، كلّ نضال يجب أن يكون نصيرا، مناصرا للحياة. كلّ سعي لغير الحياة هو جهل. هو كفر وغباء...

٭٭٭
في يوم من الأيّام، كان لي شأن مع ادارة تونسيّة حول وثيقة عليّ استخراجها. كالعادة ويا ربّي لا تقطع لنا عادة، بعد ذهاب وايّاب ومواعيد ووعود، لم أفلح في استخراج الوثيقة وأغلقت في وجهي الأبواب. أو كادت. هي وثيقة هامّة وعليّ أن آخذها وإن طال الزمان... تريد أيّها القارئ أن تعرف ماهيّة الوثيقة؟ لا لن أقول لك عنها شيئا. يجب أن تعلم أنّها وثيقة هامّة. ليست كالوثائق. هل عليّ أن أعلمك بكلّ التفاصيل والجزئيّات؟ أنا لست مطالبا بأن أقول لك كلّ التفاصيل والجزئيّات. لن ينفعك معرفة ماهيّة الوثيقة ولماذا هي متأكّدة، هامّة... دعنا من هذا الآن واكتف أيّها القارئ بما أكتب من جمل وبيان واتبع، إن شئت، خطواتي. أنا الكاتب وأمشي بالكتابة كما أشاء. أنا حرّ في ما أنتقي من فكر ومن كلام. إن شئت واصل معي الحكاية وإن شئت فاذهب الى شأنك ودعني... لا تنصرف. لا تدعني وحيدا. هيّا معي لنرى ما صار.

عقدت العزم على أن آخذ وثيقتي وأن لا أيأس رغم صدّ الادارة. كرّرت الزيارات وذهبت إلى مقرّ الادارة مرّات. أنا صبور، مثابر ولسوف أسعى حتّى أفوز وأنال. ذاك هو السبيل الوحيد لتحقيق غاياتك من الادارة. عليك أن تصبر وتصابر، أن تمشي اليها مرارا وتكرارا. ذاك هو السبيل الوحيد وأنا والكثير من التونسيين مثلي أدركنا السبيل منذ زمان...
لا ليس هذا هو السبيل الوحيد لتحقيق مبتغاك من الادارة. هناك سبيل آخر، أجدى وأسرع لكن يلزمه مال. لو أعطيت رشوة سوف تفتح في وجهك الأبواب وترى الادارة بك محتفيّة وترى حاجاتك منها منتهيّة، في أحسن حال... ليس هذا سبيلي. أنا لا أعطي رشوة. المال عندي ثمين لا أتركه ضائعا. المال والبنون، كما قال تعالى: «زينة الحياة الدنيا». لا أنفق المال الا

في الضرورة أو عند مرض عضال. أمّا البنون فهي حكاية أخرى وليس هذا مكانها الآن...

٭ ٭٭
في الساحل، منذ كنت صغيرا، علّمتني أمّي رحمها الله وأخي الأكبر أعطاه الله الصحّة والعافيّة، أن أحبّ المال، أن أوليه حقّ قدره، أن أقتصد دائما وأبدا في الانفاق. المال عزيز، لن أفرّط فيه أبدا. لن أعطيّ أبدا رشوة. كذلك علّمتني أمّي وعسر الحياة... ماذا أقول؟ أنا لا أعطي رشوة؟ دعني أتذكّر. هذا لا يعني أنّي لم أعط أبدا رشوة. في الحقيقة، أنا أحبّ المال ولكن أحيانا أعطي رشوة. قد يحصل هذا، أحيانا. هل في هذا شذوذ أو خروج عن الصفّ والمعتاد؟ لا، ليس هذا شذوذا وليس هو خروجا عن المعتاد. كلّ التونسيين يعطون رشوة. الكلّ غارق في الرشوة. لمّا تصبح الرشوة سلوكا جماعيّا مشتركا، هل تكون الرشوة فعلا مشينا، فعلا حراما؟ لا أعتقد. أفلسنا نقول «إنّ يد الله مع الجماعة»؟ أفلسنا نقول «إنّ خطأ مشاعا خير من صواب محفوظ؟» اليوم، كلّ الناس في الخطأ المشاع. الكلّ يعطي رشوة. الكلّ يأخذ رشوة. أنا كالناس. أفعل ما كان بين الناس مشاعا. هل آتي جرما ان أعطيت رشوة؟ لا أعتقد. لا أدري. أعلم أن الله لعن الراشي والمرتشي ووعدهما بنار عذاب. لكن الرشوة اليوم سنّة مشتركة، مرجعيّة عامّة. هي السبيل لمواجهة الادارة، لقضاء ما تعدّد من شؤون وحاجات...

لا مفرّ في الحياة من كمين الادارة وقد زرعت الادارة كمائن وألغام، في كلّ مكان. لن يمكنك الإفلات. يجب أن تعطي رشوة كالناس. كلّنا في تونس عطّاؤون وهذه الادارة منتصبة، تتربصّ في كلّ شارع وزقاق. لكلّ ادارة مناشيرها، خواتيمه. لكلّ سبلها في أخذ العطاوي، في استخراج الرشاوي من جيوب الناس... أنا لست عنترة ولا سوبرمان. لا يمكنني أن أحيا خارج ما يأتيه الناس من سنن وما يعطونه من رشاو...

٭ ٭٭
في شتاء مضى، في يوم أحد، في أخر المساء، كنت عائدا من كاب زبيب وعائلتي وقد شدّني تعب وإرهاق. في الطريق، قرب حيّ النصر، كانت هناك أضواء. لم أر الأضواء. قل، رأيتها ولم أتوقّف. أنا تعبان. مساءها، حرقت الأضواء. كنت عشيّتها منهكا، منهارا... في كاب زبيب حيث أملك أرضا صغيرة كلّها أشجار وأزهار، أتيت أشغالا كثيرة. الفلاحة عذاب أزرق. فيها مشقّة وعناء. في تلك الأرض، لي نحو خمسة أشجار برتقال. خوفا من اللصوص وفي كلّ شتاء يلهف اللصوص ما كان من ثمار، كنت أستبق الأحداث، أستعدّ لما قد يطرأ من سرقات. ها أنا أنظر في كلّ غصن. أجمع ما كان طازجا أو يكاد من البرتقال...

أصبحت اللصوصيّة في تونس قبل الثورة وبعدها خاصّة مصيبة وطنيّة، محبطة للعزم، قاتلة للأمل. الكثير من صحبي يريد شراء أرض. يزرعها خضرا وأشجارا. يمرح فيها وصغاره، أيّام الأحد وفي العطل. لكن، في كلّ مرّة يشتري أحد أرضا إلا وألقاه آسفا عمّا أتى من شراء. في كلّ مرّة، يقول صحبي، يأتي اللصوص على الثمار يقطفونها ليلا، نهارا. يقلّعون الشجيرات، يقطعون الأغصان، يسرقون كلّ شيء يباع. يخرّبون الديار. بسبب السرقات وبما يلقونه من معاناة مع العمّال ومع غيرهم من الناس، العديد من أصحابيّ في ندم. الكثير منهم يريد بيع ما اشتروا من أرض وما بنوا من ديار...

حين أرى ما يفعله اللصوص، كلّ مرّة، في شجيراتي، يصيبني كدر شديد وأقول: سوف أقتلع الأشجار من عروقها فأرتاح وأريح السرّاق الكلاب. لكن، أحبّ شجيراتي وكنت لها دوما حافظا، حريصا. منذ سنين، صيفا وشتاء، أصونها، أرعاها. أسقيها بماء غير زلال. أجلس تحتها كلمّا اشتعلت الشمس نارا. أنظر في الأرض، أصونها. انظّف سواقيها. أنزع ما كان من حشيش وأغصان... في الغرس، طوال النهار، أشتغل. لا أهدأ. الفلاحة عمل مٌضن وفي كلّ مرّة أتي فلاحة يشدّني تعب وتراني أتصبّب عرقا. أحبّ التعب هذا وما تصبّب من عرق. كنت أمشي الى الغرس كطفل في أحضان أمّه، مفعم القلب عزما وانشراحا. كلّ يوم أحد وأيّام العطل، أذهب وكلّ عائلتي إلى الغرس. مع محمّد وخديجة والبنيّة، نقضي الساعات في ترتيب البيت، في صيانة الأرض، في اقتلاع ما فسد من الأشجار. في الصيف، نفتح، في كاب زبيب، موسم السباحة. هذا البحر البهيّ أمامنا، قبالة الأرض، في استعداد. نأتيه وكلّنا شوق وغبطة فيأتينا وكلّه نضارة وإشراق. في البحر نسبح مرّات ومرّات، صباحا، مساء وفي الليل أحيانا. على الرمال، نستلقي، نتمرّغ، نلعب العابا لا ألقى لها مفردات... في الشتاء، لمّا تغرب الشمس، نجمع ما كان من متاع. نقفل الأبواب ونعود الى تونس منهوكي القوى. يشدّنا تعب وإرهاق...
(يتبع)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115