حينما يتحول التمييز الإيجابي لفائدة الجهات الى مبدإ صلب: دستور 27 جانفي 2014

بقلم: معتز القرقوري
أستاذ محاضر بكلية الحقوق بصفاقس
المساواة قيمة إنسانيّة سامية ترتقي إلى مستوى الحقوق الطبيعيّة للإنسان التي تكتفي النصوص

القانونيّة بالإعلان عنها. وفي تونس يعتبر مبدأ المساواة مبدأ مترسّخا صلب التجربة الدستوريّة التونسيّة حيث تمّ الإعلان عنه وتكريسه صلب أهمّ النصوص المتعلّقة بالحقوق والحريات خاصّة وأنّ بلادنا كانت سبّاقة في إلغاء العبوديّة كشكل من أشكال المساس بقيمة المساواة. كما أنّ عهد الأمان ودستور 1861 وكذلك دستور 1959 جميعها نصوص دستوريّة أساسيّة جاءت معلنة ومكرّسة لمبدإ المساواة بطرق وأساليب مختلفة وفي ظروف تاريخيّة متميّزة.

وتواصلا مع هذا الإرث الدستوري الوطني والحضاري الإنساني المتعلّق بقيمة المساواة، جاء دستور 2014 ليؤكّد على أهميّة مبدإ المساواة ليس فقط باعتبارها قيمة إنسانيّة سامية تعتبر من مرتكزات المنظومة الكونيّة لحقوق الإنسان ولكن أيضا باعتبار أنّ هذا المبدأ يعتبر من المبادئ الجوهريّة التي نادت بها الثورة التونسيّة حيث كانت العدالة والمساواة في أبعادهما المتعدّدة والمختلفة مطلبا أساسيّا ومركزيّا. وتكفي الإشارة في هذا الإطار إلى ما جاء صلب التوطئة، وهي جزء لا يتجزّأ من الدستور، من أنّه «... وتأسيسا لنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي... تضمن فيه الدّولة علويّة القانون واحترام الحريات وحقوق الإنسان واستقلاليّة القضاء والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين والمواطنات». كما جاء بالفصل 21 من الدستور ضمن باب الحقوق والحريات أنّ « المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز». كما نجد صلب الدستور عديد الإحالات الصريحة أو الضمنيّة إلى فكرة المساواة والعدالة وحتّى إلى مفهوم الإنصاف الذي يرتبط في جانب منه بمفهومي العدل المساواة.

غير أنّ تأكيد المشرّع الدستوري على أهميّة مبدإ المساواة وعلى ضرورة عدم التمييز بين المواطنين والمواطنات لم يمنعه من اعتماد آلية أو تقنية التمييز الإيجابي وتكريسها صلب الأحكام الدستوريّة. وللحقيقة فإنّه سبق للمجلس الدستوري التونسي السّابق أن أقرّ في حيثيّة مهمّة صلب الرّأي عدد 34 - 2005 للمجلس الدستوري بخصوص مشروع قانون توجيهي يتعلّق بالنّهوض بالأشخاص الحاملين لإعاقة وحمايتهم ما يلي: «وحيث وإن اقتضت أحكام الفصل 6 من الدستور( دستور 1 جوان 1959) المساواة في الحقوق والواجبات وأمام القانون فإنّ في تضمّن الفقرة الأولى من الفصل 5 من الدستور من شموليّة لحقوق الإنسان ما لا يمنع التمييز الإيجابي لفائدة بعض الفئات قصد تأمين المساواة الفعليّة كالأشخاص الحاملين لإعاقة في صورة الحال، طالما أنّ هذا التمييز الإيجابي لا ينال من الحقوق الأساسيّة التي يضمنها الدستور وكان خاضعا لهدف وحيد وهو تحقيق تكافؤ الفرص ومتّسما بالتناسب بين الامتيازات والمنافع والتسهيلات والإعفاءات من جهة والهدف المنشود من جهة أخرى».

كما أضاف المجلس الدستوري السّابق في حيثيّة أخرى بأنّه « وحيث أنّ مشروع القانون المعروض عندما وضع أعباء خاصّة على كاهل الدّولة والمؤسّسات العموميّة والخواص إنّما يندرج ذلك في إطار ما نصّت عليه الفقرة الثالثة من الفصل 5 من الدستور من أن تعمل الدّولة والمجتمع على ترسيخ قيمّ التضامن والتّآزر بين الأفراد والفئات والأجيال».
وقد جاء دستور 2014 ثريّا بالأحكام المتّصلة بالتمييز الإيجابي سواء لفائدة المرأة أو الأطفال أو الشباب غير أنّ ما جلب انتباهنا خاصّة هي الأحكام المتّصلة بتقنية التمييز الإيجابي لفائدة الجهات. فإضافة إلى تأكيد توطئة الدستور على فكرة العدل بين الجهات، فإنّ الفصل 12 من دستور2014 الوارد صلب المبادئ العامّة، وهو ما يفترض جدلا أنّ الأحكام المضمنة صلب هذا الباب هي من قبيل المبادئ الدستوريّة، أنّه « تسعى الدّولة إلى تحقيق العدالة الاجتماعيّة والتنمية المستدامة والتوازن بين الجهات استنادا إلى مؤشرات التنمية واعتمادا على مبدأ التمييز الإيجابي».

يبدو أنّ المشرّع الدستوري يعتبر أنّ التمييز الإيجابي على الأقل لفائدة الجهات هو من قبيل المبادئ الدستوريّة. فإضافة إلى إدراجه صلب الباب الأوّل من الدستور المتعلّق بالمبادئ العامّة، فإنّه يكيّف صراحة التمييز الإيجابي لفائدة الجهات صلب الفصل 12 من الدستور باعتباره مبدأ دستوريّا. ورغم أننا لا نشك ولا نشكك في مشروعية التمييز الايجابي بمختلف أنواعه بما في ذلك التمييز لفائدة الجهات باعتبار فشل منوال التنمية لعقود في تحقيق الحد الأدنى من العدالة بين الجهات، إلا أننا نعتقد أنّ هذا التكييف الدستوري للتمييز الايجابي كمبدأ دستوري في غير محلّه بل ويمكن أن يكون خطيرا للأسباب التالية:

السبب الأوّل هو أنّه التمييز الإيجابي هو بطبيعته شكل من أشكال التمييز ووصفه بأنه إيجابي لا يعني تغيير أو تحوّل في جوهره فهو في نهاية المطاف شكل من أشكال التمييز الذي يتعارض مبدئيّا مع مبدأ المساواة وهو المبدأ الجوهري في المجال القانوني عامّة والدستوري خاصّة. إنّ التمييز الإيجابي يقوم بصفة أوليّة على تكريس جملة من الامتيازات والإجراءات الخصوصية لفائدة فئة معيّنة تعاني من وضع اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي هش وليست لها نفس حظوظ الفئات الاعتياديّة الأخرى ممّا يمثل مساسا بمبدأ تكافئ الفرص المتفرّع عن مبدأ المساواة.

إنّ القبول بفكرة تقنية التمييز الإيجابي لا يمكن ربطه والإقرار بمشروعيّته إلاّ في إطار هذا التحديد له وهو تحديد له صبغة استثنائيّة بطبيعتها. فالتمييز الإيجابي ليس هو المبدأ وإنّما هو استثناء لمبدأ المساواة المكرّس دستوريّا والمعتبر قيمة مشتركة صلب المنظومة الكونيّة لحقوق الإنسان وهي قيمة تبدو فوق كلّ منازعة من حيث المبدأ على الأقل.
السّبب الثاني وهو في ارتباط وثيق بالسبب آنف الذكر هو أنّه وباعتبارها تقنية تقوم على تكريس معاملة مختلفة أو غير متساوية بين فئات وأطراف مختلفة من حيث الوضعيّة الواقعيّة والفعليّة فإنّ التمييز الإيجابي لا يمكن أن يكون تطبيقه إلاّ بصورة استثنائيّة ووقتيّة فهو إجراء وقتي غايته الوحيدة والقصوى هي الرّجوع أو الوصول إلى الوضعيّة القانونيّة الأصليّة

والطبيعيّة وهو وضعيّة المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين والمواطنات. ولو أردنا تطبيق ذلك على الجهات فإنّ ذلك يفترض الوصول إلى فكرة العدالة أو التوازن الجهوي وهي من الأفكار التي ارتكزت عليها الثورة التونسيّة.
إنّ التمييز الإيجابي باعتباره إجراء وقتيّا واستثنائيّا لا يمكن بحال من الأحوال أن يتحوّل إلى مبدإ دستوري لأنّه لا يمكن إضفاء صفة المبدإ على جملة من الإجراءات والتدخلات سواء كانت دستوريّة أو تشريعيّة أو ترتيبيّة، ذات الأبعاد الاستثنائيّة والتي يجب بطبيعتها أن تكون وقتيّة وموجّهة أي ليست لها صفة العموميّة والامتداد إلى ما لا نهاية له في الزمن. فاللجوء

إلى التمييز الايجابي من قبل السلطات العمومية سواء من خلال تأهيل دستوري أو تشريعي يجب أن يرتبط بالغاية منه وهي تحقيق المساواة الفعلية وان الامتيازات الممنوحة في إطار آلية التمييز الايجابي يجب أن لا تتواصل إذا تحققت الغاية منه وهي الوصول إلى المساواة الفعلية والواقعية.

السّبب الثالث هو أنّ التمييز الإيجابي عامّة ولفائدة الجهات خاصّة وبقدر ما له من الإيجابيّات خاصّة في المثال التونسي الذي قام فيه منوال التنمية ولعديد العشريات على فكرة خدمة المركز وتهميش الجهات ممّا خلق حالة من انعدام التوازن الجهوي و«النقمة» على السلطة المركزيّة، فإنّ تطبيقه بصورة عشوائيّة وغير مدروسة وغير معقلنة قد يؤدّي إلى نتيجة عكسيّة.
فتكريس «حق» في التمييز الإيجابي لفائدة الجهات قد يشجّع على ثقافة التعويل على المركز وانتظار تدخّلاته الإعجازيّة لخلق نوع من التوازن بين الجهات كما قد يشجّع على ثقافة التواكل والاتّكال على السلطة المركزيّة. وهذا الخطر ليس افتراضيّا بل هو خطر واقعي وفعلي تدعمه الثقافة الاجتماعيّة الغالبة ولكن كذلك المعطيات التاريخيّة والحضاريّة. فالبيئة

الحضاريّة والثقافيّة والتاريخيّة الوطنيّة قد تكون مشجّعة على فكرة الاتّكال على المركز وانتظار ما «يجود» به على «الأطراف» من منافع ومساعدات.

ونعتقد أنّ تطبيقا غير عقلاني وغير مدروس للتمييز الإيجابي قد يشجّع على ترسيخ هذه الثقافة « المدمّرة» ليس فقط للمشروع الطموح للامركزية، ولكن أيضا لمفهوم الصالح العام ولمشاركة كلّ الأطراف في خدمته كلّ من موقعه بدون انتظار هدايا المركز وعطاياه التي ترتهن لا محالة التنمية الجهويّة بنوع من التبعيّة إزاء المركز.
وخلاصة القول أنّ التمييز الإيجابي لا يمكن بحال من الأحوال تكييفه، على الأقل أكاديميّا، بأنّه مبدأ بالنظر إلى صبغته الاستثنائية والوقتيّة. كما أنّ طريقة استعماله واللجوء إليه يجب التعامل معها بحذر حتّى لا ينقلب إلى نقيض الغاية التي تمّ تكريسه من أجلها. فالتمييز الإيجابي يجب أن يكون منطلقا لدفع التنمية في الجهات وإيجاد نوع من التوازن بينها في إطار ترسيخ قيم التضامن والتآزر بين الأفراد والفئات والجهات. أمّا أن يتحوّل التمييز الإيجابي إلى تقنية يجعل الجهات رهينة آليّات التسوية والتعديل، التي تبقى في نهاية الأمر، بيد السلطة المركزيّة فإنّ ذلك قد ينحرف بالتمييز الإيجابي عن وظائفه الأصليّة باعتباره محطة « وقتيّة» في مسار تكريس المساواة الفعليّة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115