قهوة الأحد: هل من جيل ثالث للمجلات الفكرية في ربوعنا ؟

تلعب المجلات الفكرية والنظرية دورا مهما في تاريخ الحركات الفكرية في البلدان الديمقراطية.

فإلى جانب حركة النشر والكتب الفكرية والبرامج الفكرية الإذاعية والتلفزية فإن للدوريات مكانة خاصة ومتميزة باعتبار الأدوار المتعددة التي تلعبها في إنارة وتحفيز الحركة النقدية والفكرية في كل بلدان العالم .

ومن ضمن هذه الأدوار يمكن لنا أن نشير إلى أن المجلات الفكرية تفتح المجال لكبار المفكرين وصانعي الأفكار «les faiseurs d’opinion» لاختيار نظرياتهم وأفكارهم الكبرى قبل إصدارها في كتب أو دراسات – فقبل إصدار مؤلف نظري مهم أو دراسة فكرية كبيرة يعمد كثير من المفكرين إلى إصدار أفكارهم في مقالات في المجلات الفكرية لاختبار وقعها على القراء قبل تطويرها في كتب مهمة . فالعديد من الكتب والمساهمات الفكرية والنظرية المهمة بدأت في شكل مقالات في المجلات الفكرية المختصة قبل أن تتحول إلى كتب مهمة ساهمت في بعض الأحيان في تثوير الساحة الفكرية .

كما تساهم المجلات الفكرية في تنمية الساحة الفكرية والثقافية من خلال إعطائها الفرصة لكبار المفكرين للتعبير عن آرائهم حول القضايا الحارقة بطريقة سريعة وبدون انتظار إصدار الكتب والتي تتطلب وقتا طويلا يكون الموضوع قد تجاوزه الأمر عند نشر الكتب .

كما تلعب المجلات والدوريات الفكرية كذلك دورا مهما وتضفي على الساحة الفكرية والسياسية حيوية أكثر من خلال تخصيصها لأعداد خاصة تجمع فيها اكبر الخبرات والمفكرين والباحثين حول مواضيع معينة بارتباط بالوضع السياسي والاجتماعي العام – فتكون هذه الأعداد الخاصة فرصة للقراء للاطلاع على وجهات نظر مختلفة وفي بعض الأحيان متناقضة في تناول القضايا المجتمعية والسياسية العامة.

أما الجانب الآخر والمهم والذي تلعبه المجلات الفكرية فيخص الباحثين والجامعيين حيث يعتبر نشر المقالات في هذه الدوريات وخاصة المحكمة منها مقياسا أساسيا في تقييم الباحث وفي تطور مسيرته المهنية والجامعية .

إذن تلعب المجلات الفكرية والدوريات الثقافية بصفة عامة دورا محوريا في تنشيط الحياة الفكرية والإنتاج والإبداع الفكري. فهي تفتح إمكانات المساحات ومجالات النقاش والإبداع الفكري وخاصة النظر للذات لسبر أغوارها وفهم تناقضاتها وتداعياتها في علاقة بالتجربة السياسية والتاريخية . فهذه المجلات تفسح المجال لوضع الذات في محك النقد والتمحيص لا فقط في علاقتها بنفسها وقناعاتها وتجربتها التاريخية بل كذلك في علاقة بالآخر فتمكننا هذه الفسحات الفكرية من الغوص لا في أعماق الايجابي في هذه التجربة الذاتية بل كذلك في المسكوت عنه والممنوعات في التجارب الجمعية .

وقد لعبت عديد المجالات والدوريات الفكرية على المستوى العالمي دورا مهما في تنشيط الحركة الفكرية العالمية وخلق فضاء لطرح ونقاش أهم القضايا الفكرية . ومن هذه المجالات والدوريات اذكر في فرنسا مجلات les temps modernes أو الأزمنة الحديثة لصاحبها المفكر جون بول سارتر ومجلة Esprit ومجلة le débat وعديد المجلات الأخرى .

ولم يبق العالم العربي بمنأى عن هذه الحركية الفكرية ونشر الدوريات المهمة واذكر منها مجلة عالم الفكر ومجلة الفكر العربي المعاصر ومجلة الآداب ومجلة شعر والتي لعبت دورا كبيرا في حركة الحداثة الشعرية العربية في نهاية السبعينات ومجلة الطريق التي أصدرها الحزب الشيوعي اللبناني ومجلة المستقبل العربي وغيرها كثير من الدوريات والمجلات التي لعبت دورا أساسيا في تنشيط الحياة الفكرية في الوطن العربي .

ونفس الشيء يمكن أن نقوله بالنسبة لبلادنا . فقد عرفت تونس صدور العديد من الدوريات وإن كان العدد اقل . واذكر من هذه المجلات والدوريات مجلة الفكر لصاحبها الوزير الاول المرحوم محمد مزالي ومجلة 21/15 لمجموعة الإسلاميين التقدميين ومجلة أطروحات لأقصى اليسار ومجلة الموقف للحزب الديمقراطي التقدمي والتي أخذت منحى فكريا في بعض الأحيان وأخيرا مجلة الفكر الجديد لصاحبها الجامعي والصديق شكري المبخوت .

أسوق هذه الملاحظات حول المجلات الفكرية ودورها في تنشيط الحياة الفكرية والثقافية بعد تنظيم المكتبة الوطنية والتي تديرها باقتدار الجامعية رجاء بن سلامة ندوة حول ثلاث تجارب لمجلات فكرية هامة في المغرب العربي من خلال دعوة منشطيها ومسؤوليها لتقديم تجاربهم وهم البشير بن سلامة عن مجلة «الفكر « في تونس والجامعي داهو دجربال عن مجلة «نقد» الجزائرية ومحمد الصغير جنجار عن مجلة «مقدمات «المغربية .

لم أتمكن للأسف من حضور الندوة لكن تابعت أهم النقاشات التي جاءت فيها من خلال تغطية مهمة للصديقة والأستاذة الجامعية قمر بن دانة بعنوان:
«Le Maghreb des revues :AL FIKR ,NAKD et Prologues à l’honneur «

وصدر على الموقع الالكتروني لمجلة «Prologues» أو «مقدمات».وعند قرائتي لهذا المقال انتابني سؤال عن سبب غياب الجيل الثالث للدوريات والمجلات الفكرية لما بعد الثورات العربية والذي يحاول فهم وقراءة التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها المجتمعات العربية في ظل هذه القطيعة الهامة التي فتحتها الانتفاضات التي شقت مجتمعاتنا اثر بدايات انهيار الأنظمة الاستبدادية .

وقبل الإجابة عن هذا التساؤل أريد العودة إلى تاريخ الدوريات الفكرية في بلداننا لتقديم بعض الأفكار حول هذه المسيرة وما اسميه بالأجيال الثلاثة لهذه المجلات التي طبعت المجال الثقافي والفكري .

الجيل الأول لهذه المجلات والدوريات هو ما اسميه جيل الدولة الوطنية أو مجلات ما بعد الاستعمار فقد ظهرت عديد الدوريات في ظهرانينا مباشرة بعد الاستقلال ومجلة الفكر في بلادنا والتي أسسها الوزير الأول الاسبق المرحوم محمد مزالي إلى جانب الأستاذ ووزير الثقافة الأسبق البشير بن سلامة هي مثال على ذلك . فقد ظهرت هذه المجلة سنة 1955 وكانت تواصلا لمجلة «الندوة» لصاحبها محمد النيفر والتي ظهرت سنة 1953 وقد اشرف محمد مزالي على إعداد عددها الأخير .

قام محمد المزالي العائد لتوه من فرنسا اثر دراسته الفلسفة في جامعة السوربون بإصدار مجلة الفكر لتستمر هذه المسيرة مع زميله في التدريس الأستاذ البشير بن سلامة والذي أصبح رئيس تحرير المجلة حوالي 30 سنة إلى 1986. وكان الكاتبان يمضيان اغلب افتتاحيات المجلة وقد كونا لجنة إشراف على المجلة متكونة في اغلبها من مفكري تلك الفترة ومن بعض زملائهم الأساتذة وكانت تجتمع مساء كل سبت لتقييم الأعداد المنشورة وتحديد محتويات الأعداد القادمة ونقاش المقالات المقترحة للنشر .

وقد لعبت هذه المجلة دورا كبيرا في تلك الفترة وطيلة مسيرتها لتصبح ملتقى النخبة واحد روافد بناء الدولة الحديثة والدولة الوطنية – وستلعب هذه المجلات والدوريات أدوارا مهمة ومن ضمنها التعريف بالنخب والمفكرين الجدد. فقد نشر مثلا هشام جعيط وعزالدين المدني أولى نصوصهما في مجلة الفكر كما ستكون هذه المجلات نافذة على الفكر العالمي من خلال تقديم نصوص المفكرين العالميين والتي لم تكن متوفرة في تلك الأيام .

إلا أن الدور الأساسي والمركزي لهذه المجلات والدوريات في تلك الأيام وفي السنوات الأولى لدولة الاستقلال تمثل في دعم المشروع الوطني وعملية التحديث التي تقوم به النخب الجديدة وقادة الحركة الوطنية من اجل الخروج من المجتمع التقليدي والقطع مع البنى الاجتماعية والسياسية المتخلفة والموروثة من سنوات التهميش والهيمنة الاستعمارية . وستشكل هذه الدوريات والمجلات في بلادنا وفي اغلب بلدان العالم العربي الرافد الفكري والأساس الإيديولوجي لعملية التحديث وبناء المشروع الوطني وستعرف نجاحا كبيرا لدى النخب الجديدة لتصبح مجالا للإنتاج الفكري والثقافي .

إلا أن أزمة المشروع الوطني مع هزيمة 1967 وظهور بوادر الاستبداد السياسي ستنعكس سلبا على هذه الدوريات والمجلات الفكرية لتصيبها بالترهل وتحد من تأثيرها في النخب والحياة الثقافية والفكرية بصفة عامة .

وفي هذا المخاض السياسي والفكري سيبرز الجيل الثاني من المجلات الفكرية والدوريات الثقافية والذي سيكون مختلفا بطريقة جذرية عن الجيل السابق.فالجيل الثاني من هذه الدوريات والذي سينطلق من منتصف الستينات إلى بداية الألفية سيحمل معه روح النقد والثورة على الأنظمة السياسية السائدة وسينمي روح الثورة الثقافية والتجارب الجديدة في الممارسة الثقافية . ومن ضمن هذه المجلات نجد على سبيل المثال مجلة شعر والتي ستكون وراء الثورة الشعرية وبروز حركة غير العمودي والحر و»أنفاس» أو «souffles» في المغرب مجلة «Perspectives» و «أطروحات» في تونس ومجلة نقد في الجزائر اثر ثورة الشباب ومجلة «مقدمات» أو «Prologues» في المغرب – ولعل التجربتين الأخيرتين هما الأبرز في تاريخ هذه الدوريات الفكرية من حيث تجديدها الفكري والمنهجي ومحاولتها إرساء تقاليد فكرية جديدة والقطع مع المنهج الفكري الحداثي السائد في تلك الأيام والغوص في ما بعد الممارسة الحداثية وبدايات فشل الأنظمة الوطنية .

وسيعرف هذا الجيل من الدوريات الفكرية والمجلات الثقافية نجاحا كبيرا منذ نهاية الستينات إلى نهاية الألفية ليصبح قبلة النخب الجديدة الناقدة والرافضة والمناهضة للاستبداد وما تبعه من انغلاق للحياة السياسية والفكرية . إلا أن هذا الجيل الجديد لن يصمد أمام تنامي الاستبداد والمنع المتزايد للنشر وخنق الحريات – فقد عانت هذه الدوريات من الرقابة ومن المنع والإيقاف . كما عرفت كذلك الكثير من الصعوبات المالية والاقتصادية نتيجة غياب الدعم .

وسيكون تفاقم هذه الصعوبات (السياسية والاقتصادية) وراء نهاية هذا الجيل الجديد من النشريات واضمحلاله .

ومع الثورات العربية سيبرز جيل ثالث من الدوريات والمجلات الفكرية العربية والذي سينعم بهامش الحرية الجديدة لتطوير فضاء فكري ومعرفي هدفه فهم التطورات والتحولات الكبرى التي تعيشها المنطقة العربية وقد ظهرت عديد التجارب من ضمنها « الفكر الجديد» للأستاذ والقاصّ شكري المبخوت ومجلة «الجديد» الصادرة في لندن وغيرها من التجارب الجديدة الأخرى إلى جانب إعادة إحياء تجارب قديمة كمجلة «الآداب «اللبنانية و»مقدمات» المغربية على الانترنت .

إلا انه وبعد سنوات قليلة من النشاط فقد دخلت تجارب الجيل الثالث من المجلات الفكرية في أزمات كبيرة .وتكمن أسباب هذه الأزمات في ثلاث مسائل أساسية :

المسألة الأولى فكرية ثقافية ومرتبطة في رأيي بطبيعة اللحظة التاريخية التي نمر بها ونعيشها اليوم – فقد خلقت التطورات التكنولوجية زمنا جديدا تغلب فيه اللحظة الآنية ويتراجع فيه الزمن الطويل . وهذا التطور التاريخي انعكس سلبا على الممارسة الفكرية والثقافية حيث أصبح المستهلك يحبذ ويخير الاستهلاك الآني للمنتوج الفكري والثقافي مما ساهم في تهميش الإنتاج الذي يهتم «بالتاريخ الطويل» أو ما نسميه

« l’histoire longue» وهذا التطور انعكس سلبا على المجلات والدوريات الفكرية ولعب دورا كبيرا في تهميشها وفي الصعوبات التي يعرفها الجيل الثالث في النشريات .

المسألة الثانية تخص الدور الكبير الذي أصبحت تلعبه الانترنت والشبكات الاجتماعية في نقل المعرفة والعلم والدراسات فالأجيال الجديدة من الشباب تخلت نهائيا عن المطبوعات ليصبح انفتاحها على المعرفة يمر عبر الانترنت. إلا أن اغلب الدوريات الجديدة بقيت محافظة على الأشكال التقليدية في تغليب الجانب الورقي على الانترنت مما ساهم في تهميشها وزاد في غربتها في المجتمعات الجديدة .

المسألة الثالثة اقتصادية ومالية وتشكل الجانب الحاضر على الدوام والذي ساهم في هشاشة المجلات والدوريات الفكرية وأزماتها المستديمة .

لقد لعبت المجلات والدوريات الفكرية على مدى تاريخنا دورا هاما ومتميزا في تنشيط الحياة الفكرية وفي قراءة ونقد تجربة الذات في علاقة بنفسها وبالآخر – ومواصلة هذه الدوريات في لعب دور هام ضرورية وأساسية ولكنها في نفس الوقت مرتبطة بقدرتها على خلق علاقة جديدة بالزمن المتغير الذي نمر به وبثوراته المعرفية والتكنولوجية والسياسية .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115