هل أن نظام الاقتراع على الأفراد هو الحل لتجاوز الأزمة الحكومية والسياسية؟

بقلم: الأستاذة لمياء ناجي - أستاذة مساعدة بكلية الحقوق بصفاقس

تعيش تونس أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية تكاد تكون غير مسبوقة منذ استقلال البلاد حتى أن البعض يشكك في صحة كل ما يتعلق بالاستقلال نفسه وفي نزاهة بناة الدولة الوطنية. وتزداد أزمة الثقة بين الحكام والمحكومين تعمقا بالرغم من إرساء نظام ديمقراطي بعد الثورة. وقد أصبح بائنا للعيان أن طبيعة النظام السياسي المكرس بدستور 27 جانفي 2014 ساهمت إلى حد بعيد في الوصول إلى المأزق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي لم نتوفّق في الخروج منه. وبرزت قراءات تفسر الأزمة والإحباط الذي أشار إليه رئيس الجمهورية يوم 20 مارس 2018 وتقترح حلولا من أبرزها مراجعة نظام الإقتراع الذي سانده رئيس الدولة.

لكن هل يمكن اختزال أسباب أزمة الحكم ومؤسسات الدولة التي تآكلت سلطتها وهيبتها في النظام الانتخابي مما حدا ببعض أساتذة القانون الدستوري إلى الدعوة إلى الإسراع في مراجعته واستبداله بنظام الاقتراع على الأفراد بالأغلبية على دورتين؟

صحيح أن سبب تأزّم الوضع السياسي والحكومي يعود إلى أحكام دستور 27 جانفي 2014 نفسه. فرغم احتوائه على قيم ومبادئ تعتبر كسبا بالمقارنة مع دساتير الدول الأخرى بالمنطقة وذلك بفضل ما قام به المجتمع المدني من دور نشيط وفعال على امتداد مسار التأسيس إلاّ أن الحلقة الأضعف في دستور2014 هي الأبواب المتعلقة بالنظام السياسي ومؤسساته المحورية. فغياب التصور لدى السلطة التأسيسية الأصلية لنظام سياسي متوازن يتماشى مع السياق التونسي والانسياق في منطق «رد الفعل» أدى إلى إقحام صلب الدستور لآليات الأنظمة البرلمانية على اختلافها وبعض آليات النظام الرئاسي مما أدّى إلى نظام مختل التوازن يشجع على خلق الأزمات واستفحالها ويعطّل مصالح المجتمع ويرتهنها أحيانا. وقد غاب على المجلس الوطني التأسيسي في ظلّ حرصه على الابتعاد عن النظام السياسي الذي كرّسه دستور 1959، أنّ النظام الديمقراطي يبنى فقط على البرامج ونجاعة العمل السياسي الذي يكسب وحده ثقة المواطنين.

فسواء تعلّق الأمر بالانتخابات أو بممارسة السلطة من قبل مختلف الأجهزة في الدولة لا بد أن تكون على أساس برامج حتى تسهل الرقابة والمساءلة التي هي أساس تأسيس السلطة وفصلها عن شخص الحاكم. هكذا نشأت الديمقراطية الحديثة وتطورت الأنظمة السياسية الديمقراطية بما فيها الأنظمة البرلمانية. فالحكومة في النظام البرلماني هي هيئة سياسية متضامنة حول برنامج محدد تقترحه على البرلمان الذي يصوت على منح الثقة على هذا الأساس. ذلك يعني أن منح الثقة للحكومة من قبل البرلمان واختيار رئيسها أو انتخابه كما هو الشأن في ألمانيا لا يكون إلا نتيجة تقديمها لبرنامجها السياسي الذي نظر فيه البرلمان الممثل للشعب وناقشه ووافق عليه. ثم إذا حصل أن خالفت الحكومة البرنامج الذي وافق عليه البرلمان أو لم تطبقه يمكن للبرلمان الممثل للشعب سحب الثقة من هذه الحكومة لمنحها للأكثر كفاءة. صحيح أنّه فيما بعد ونتيجة لظهور الأحزاب السياسية في القرن التاسع عشر ظهر عرف في بريطانيا التي تقوم على الثنائية الحزبية على أن رئيس الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية هو الذي يشكل الحكومة إلا أن ذلك لم يؤثر كثيرا على أساس تأسيس السلطة في هذه الديمقراطية المُتجذرة ولم يلغ فكرة أن الحزب هو أساسا آلة للانتخاب وليست آلة للحكم.

وبالعودة إلى التجربة التونسية الحديثة نلاحظ أن الخطأ الأول يكمن في الفصل 89 من الدستور الذي ينص على أن رئيس الجمهورية يكلف مرشح الحزب أو الائتلاف الانتخابي المتحصل على أكبر عدد من المقاعد بمجلس نواب الشعب بتكوين حكومة. كما أن نفس الفصل ينص على أن رئيس الجمهورية يقوم بإجراء مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية بتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة في أجل أقصاه شهر، مما يفتح الباب على مصراعيه لتعطيل تسيير الشأن العام بتعلّة التشاور والحوار والتوافق. وفتحت هذه الأحكام الباب للسقوط في «سياسة» التوافق المعطل لمصالح البلاد. ففي حين كان التوافق ضروريا في فترة غاب فيها الدستور وفي فترة الأزمة التي نتجت عن رغبة البعض في الاستئثار بالحكم ومحاولة فرض نمط مجتمعي قطعت معه تونس تدريجيا منذ قرن ونصف أصبح التوافق مصطنعا وخطيرا أحيانا إذ يتم أحيانا على حساب أحكام الدستور مما أدى إلى عرقلة المؤسسات. وهذا ما تعيشه اليوم حكومة «الوحدة الوطنية» التي أصبحت فريسة الحسابات السياسية والتنافس غير الشريف للقوى المتنازعة للزعامة بما فيها المنظمات المهنية التي أصبحت تتصرف وكأنها أحزاب تمنح الثقة وتسحبها عوض البرلمان الذي فقد بريقه وسلطاته بسبب تنازع الأحزاب التي أصابها الضعف والوهن. كما أن سياسة التوافق التي يفترض أن تكون على قيم ، امتدت لتصبح وسيلة بيد الأحزاب السياسية ترتّب عنها شلّ المؤسسات الدستورية واستبعاد الكفاءات على غرار ما شهدناه عند انتخاب رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وما نشهده اليوم بمناسبة انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية. فالتوافق المغشوش أو على الأصح غياب التوافق المترتب عن النزاعات الشخصية أحيانا والعقائدية أحيانا أخرى أصبح اليوم عامل شلل يضعف مؤسسات الدولة ويحول دون إرساء المؤسسات التحكيمية التي تسهر وحدها على ضمان احترام الدستور وعلى الارتقاء به وحتى إصلاح ما تضمنته أحكامه من تناقض.

هل أن ما نعيشه اليوم من عجز للمؤسسات يعود إلى طريقة الاقتراع ؟ ثم هل من شأن تغيير طريقة الاقتراع إصلاح المؤسسات والوضع السياسي للبلاد؟ هل سيؤدي إلى استعادة الثقة بين النظام السياسي وبين المواطن الناخب؟ وهل أن طريقة الاقتراع المقترحة هي المفتاح لإصلاح المؤسسات؟

تعود مسألة طريقة الاقتراع لتطفو على السطح بمناسبة كل أزمة سياسية وهذا ما عشناه سنة 2014. إلا أن طريقة الاقتراع على أهميتها باعتبار أنها تؤثّر على الأحزاب وعلى الدور الذي تلعبه الأحزاب لا تتحكم وحدها في نجاح أو فشل النظام السياسي زيادة على أن ما وصلنا إليه من تشتت حزبي يعود إلى الانفلات داخل الأحزاب ذاتها. لذا فان تغيير طريقة الاقتراع وان كانت جزءا من الحل يجب أن تكون مدروسة وتؤدي إلى اختيار طريقة اقتراع بديلة تتماشى مع الواقع السياسي التونسي. فهل أن اعتماد الاقتراع على الأفراد بالأغلبية على دورتين قادر على إصلاح ما أفرزته منظومة الأحزاب من ممارسات سياسية ترتب عنها تفاقم انعدام الثقة في الحكام مما يهدد المسار الديمقراطي؟
إنّ الاقتراع على الأفراد يقرّب المرشّح من الناخبين لأنه يفترض تضييق الدوائر الانتخابية كما أن الاقتراع بالأغلبية يقلص التشتت الذي نعيشه ويضمن قاعدة تدعم الحكومة في المجلس النيابي إلا أن طريقة الاقتراع على الأفراد لا تتماشى مع الوضع التونسي وذلك لأسباب عدة وهي أنها:

- أولا، تزيد من شخصنة السلطة التي كانت سبب ما وصلنا إليه من انفراد بالحكم وغياب للوعي السياسي لدى أفراد الشعب

- ثانيا، تحث اللاهثين على السلطة من أفراد إلى البحث عن مصادر جديدة للمشروعية مثل التمسك بالغلاف الديني أو إثارة الجهويات والنعرات القبلية في فترة نحن في أمس الحاجة فيها إلى التضامن وتجذير الانتماء إلى الوطن

- ثالثا، لا تساعد على  تطوير العقلية السياسية للناخبين كما تزيد من الضغوطات المتأتية من المال السياسي فالمرشح المدعوم من حزب سياسي كبير مهما كانت مصادر تمويله، خاصة أمام ضعف رقابة الدولة على تمويل الأحزاب،هو الذي سيكون له أكثر حظوظ للفوز

رابعا، تحول دون إعمال الفصل 34 من الدستور الذي ينص على أن الدولة تعمل على ضمان تمثيلية المرأة في المجالس المنتخبة والفصل 46 منه الذي ينص في فقرته الثالثة على أنّه «تسعى الدولة إلى تحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة»، كما يحول دون دعم تمثيلية الشباب.
 في حين أنّ الاقتراع على القائمات يعتبر الأقل سوءا إذ يدفع الناخبين للتصويت على برامج وأفكار ويساهم في زرع فكرة المحاسبة. فالنائب امرأة أو رجلا ينتخب على أساس برنامج انتخابي محدد يكون قابلا للتطبيق وحجّة على من قدمه. كما أن الاقتراع على دورتين لن يؤدي إلى دعم الأحزاب الصغرى بل سيؤدي إلى ائتلافات هشة على حساب الناخب وسيعطي أكثر حرية للمرشح أمر سيعود بنا إلى نقطة البداية وهي التوافقات المصطنعة.

مع التأكيد أن تشتّت الأصوات وغياب الاستقرار والانقسامات لا يعود فقط إلى طريقة الاقتراع بل إلى واقع «الانفلات الحزبي» الذي نعيشه وغياب الرقابة على الأحزاب وتمويلها . فإن الإبقاء على طريقة الاقتراع على القائمات بالتمثيل النسبي لكن مع تعديله باعتماد اكبر المتوسطات يمكّن من إيجاد نوع من الاستقرار يقتضيه ضرورة تعصير المجتمع واستكمال تحرير المرأة التي هي مفتاح النجاة لمجتمعنا. فلا يحقّ لأحد الركوب على الأحداث للالتفاف على حقوق المرأة التي يضمنها الدستور بدعوى معالجة أزمة الحكم من خلال مراجعة النظام الانتخابي.

وأمّا طريقة الاقتراع المقترحة فإنها لا تعطي نفس نتائج الاقتراع على القائمات بالتمثيل النسبي مع أكبر البقايا. وأما الاقتراع على الأفراد في دورتين بالأغلبية فهو يخالف فصول الدستور المتعلقة بتمثيلية المرأة وتمثيلية المعارضة. لذلك وجب على الجميع التروي وتفادي إلقاء مسؤولية الفشل على نظام الإقتراع الذي يستحق التعديل الطفيف لضمان أغلبية تتولى الحكم.

الحقيقة أنّ ضعف الأحزاب الفكري والتنظيمي وتناحرها وعدم الانضباط داخلها والرغبة الجامحة لدى عدد من أفرادها في الزعامة والتشبث بإيديولوجيات أثبتت إفلاسها وممارسات أخرى تدخل تحت طائلة القانون هي سبب أزماتنا المتلاحقة والتي تهدد جديا المسار الديمقراطي في ظل تعقّد الوضع الاقتصادي الذي بقي رهينة مما يحول دون تحقيق الثروة ومواطن الشغل.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115