حديث الأنا: ما الحياة إلا هزء ونفضان الشخصيّة التونسية: في توحيد الأنظار والأفكار

انتهت المحاضرة ولقي الذوّادي لدى الحاضرين استحسانا.نجح الأستاذ في شدّ الأذهان، في تحريك البواطن.

التفّ حوله الناس. هذا يطلب شرحا وهذا يدعوه الى صورة وثالث الى جانبه يسترق السمع وكلّه آذان. على عكس الناس، لم تعجبني المحاضرة. لم ألق فيها جديدا ولم ألق فيه اطرافة. كانت إعادة لخرافة. لو كنت من المنظّمين للندوة لرفضت المحاضرة...لكن، تجري الندوات بما شاءت الصدف والروابط.للناس رؤى واختيارات. للناسشؤون ومذاهب.لا أدري لماذا أختلف مع الناس.أعشق ما لا يعشقونو يعشقونما لا أعشق. كذلك هو البشر. في تنوّع، في اختلاف. كلّ حرّ في هواه. كلّ حرّ في عشقه ورؤاه... ماذا أقول؟ “كلّ حرّ في عشقه ورؤاه”؟ هذا قول مرفوض، بل فيه تضليل وخداع...

لكلّ دين حجج وبيان. لكلّ منهج نتائج وإمكانات. لكلّ عشق دعائم وأسباب...لو قارنّا تلك الحجج بعضها ببعض وأمعنّا البصر في هذه وتلك ودقّقنا البصر في ما جاء من تماثل واختلاف لأدركنا ما لهذه والأخرى من قوّة وضعف، من نقص وكمال ولفضّلنا هذا الدينعلى الآخر أو هذا المنهج أو هذه اللغة. بالتقليب، بالمقارنة، بالفحص الدقيق، يتجلّى الأفضل من الرأي وما كانأبقى بين الأطروحات وما كان أنجع بين المسالك الأديان. بالتحليل وبالمقارنة يبرز للعيان سبيل واحد يكون هو الأفضل، هو الأجدى.كذلك، تكون الحقيقة في النهاية واحدة. أمّا القول إن لكلّ حرّيّته في ما اختار من معتقد، من معرفة، من منهج...فهذا قول مردود لما فيه من تبسيط وتجاوز.

في ظلّ عولمة تشتدّ وفي ظل تنافس عامّ، يكون البقاء للأفضل. والأفضل هو ذاك الذي يحقّق الغايات، بأقلّ كلفة، بأدنى جهد، بأعلى جودة... العالم قرية صغيرة، متماسكة الأجزاء. الكلّ في القرية مدعوّ الى تقييم الأفكار الدائرة، الى التدقيق في السبل المتداولة، الى مقارنة المعتقدات واللغات وغيرها من الوسائل والمناهج لاختيار ما هو أجدى وما هو للفعل، للروح، للتواصل، فيه صلاح. الكلّ اليوم مدعوّ الى المشي في السبيل الأصوب، الى اعتماد الفكر الأنور، اللغة الأبلغ، المنهج الأنجح، الدين الأسمح، التكنولوجيّا الأنجع...إن نعمل العقل وندقّق النظر ونتخلّى عن هيج العاطفة، يحصل تقارب في الفهم. اشتراك في النظر. نرى الحقيقة واحدة...

فيهذا الصباح، لقيت، ككلّ مرّة، عاطفة هوجاء، حمقاء. عند التونسيّين مخزون لا ينضبمن العاطفة، من الحميّة، من الحماسة. عند كلّ حديث حول الدين أو اللغة أو فلسطين، أرى الجماهير التونسيّة في فيض. تنتفض. تشتعل نارا. أراها في هيج بليغ، في صخب كثير.لا مكان للنظر الرصين فيمثل هذه المسائل. لا سبيل الى إعمال العقل والبصيرة في مثل هذه القضايا. هذه عندنا بديهيّات. هي مسلّمات. قناعات موصودة. عند التونسيين، الدين واللغة وفلسطين لا نقاش فيها. هي قضايا منتهيّة. هي ممنوعات. هي خطوط حمراء. لا يمسّها حاكم ولا بشر.لا يمسّها زمن ولا مكان. كذلك، رسّخت فينا المسلّمات وتمكّنت. غدتفينا عقدا. عصبيّات. أكلتنا العصبيّة. أعمت بصائرنا. أشعلتنا غلوّا. نحن منذ زمن في ظلمات.لا نرى. لا نتبيّن. انتهى عندنا الإدراك... كلّ مسّ بالقرآن يشعل الشوارع نارا. كلّ مسّ بالهويّة، بالعربيّة، بالقدسفيهسعيرلهّاب...

تلك هي عندنا القضايا. قضايانا اليوم هي الهويّة والدين والقدس عربيّة. لا يحرّك التونسيين الجهل الضارب ولا الفقر القائم ولا ما نحن فيه من تبعثر وسوء حال. لايهمّالتونسيّين ما كانمن فساد،من بطالة، من مديونيّة، من تعليم ساقط، من رداءة...الأهمّ عندنا هي فلسطين، هي العروبة، هي الدين وما قاله السلف... خرج التونسيّون للتظاهر، ملأوا الشوارع، عطّلوا الدروس والحياة مساندة للقدس عاصمة. لا أحد خرج يتظاهر لما يحدث في تونس من إرهاب وتهريب وإضرابات. لا أحد تظاهر لما يحصل في اليمن من حرب، من إفك، من قتل للأطفال، للناس...أنا لا أفهم ما يدور في خلد الناس. أنا لست من هؤلاء الناس...

دعني من القضيّة الفلسطينيّة. لا شأن لي في ما يحمله الناس من إيمان ومن حماسة. انتهت المحاضرة وأعلن رئيس الجلسة أن فتح النقاش. لم يكمل الرجل جملته حتّىارتفعت الأيدي والأصابع. الكلّ واقف يطلب الكلمة. الكلّ له رأي وبيان. الكلّ يريد أن يكون الأوّل في الكلام. في ما أرى، لا يحمل الأوّل ولا الثاني سؤالا ولا جوابا. كانت الغاية أن يسمعه ويراه الناس.أصبح الكلام فرصة للظهور، لشدّ الانتباه، لتسليط الضوء على الذات. لم يأت الناس للندوة للسماع، للتعلّم. همجاؤوا دعاة، أصحاب رسائل وإيديولوجيّات...قتل حبّ الظهور الناس. أصبح الكلّ يسعى الى حوز الأضواء، الى كسب هوى الناس.تحرّر في تونس الكلام. أصبح الكلام بضاعة سوقيّة. أصبح التواصل تجارة. نحن في أسواق الخضر والغلال. نحن في أسواق سقط بضاعة...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115