قهوة الأحد: وجوه من الإبداع (10) جليلة بكار : المسرح والتقاط سحر اللحظة

نواصل تجوالنا هذا الأسبوع مع المبدعين الذين لعبوا دورا رياديا في بروز المشروع الثقافي في بلادنا والذي ساهم في دعم تجربتنا السياسية وتفردها في المنطقة العربية والإسلامية.ونزور اليوم سيدة المسرح في بلادنا والتي جعلت من الخشبة مجال التقاط آمالنا وأحلامنا وفي الكثير من الأوقات قلقنا وحيرتنا أمام صخب العالم وتعثراته.نحن اليوم بحضرة الممثلة

والمسرحية الكبيرة جليلة بكار والتي نجحت في مسيرتها وعلى امتداد قرابة الخمسين سنة أن تترجم في أعمالها المسرحية جنون العالم والخوف والذعر الذي يتركه عندنا-نجحت جليلة بكار في مسك سحر اللحظة في نصوص فيها الكثير من الشاعرية حتى في عنفها وحدتها لتساعدنا في فهم اندفاعنا والكشف عن عمق أحاسيسنا وتعقيداتها.شكلت بذلك جليلة بكار على مدى هذه السنوات وجداننا ووعينا الثقافي والإبداعي لتصبح احد أيقونات الثورة المسرحية والتجريب الفني في بلادنا.

ولكن قبل الحديث عن مسيرة جليلة بكار وتجاربها المختلفة والمتعددة أردت أن اسألها سؤالا طالما انتابني وارقني منذ اكتشافي ومتابعتي لأعمالها ونصوصها المسرحية .وهذا السؤال يخص نقطة الانطلاق لكتابة النص المسرحي أو كيف يمكن لنا أن ننطلق في هذا الهيجان من الأفكار وهذا التلاطم الرهيب للآراء والآمال والانكسارات .تعطيني جليلة بكار بكثير من الرقة والأناقة إجابات تزيد من حيرتي وتساؤلاتي .تشير جليلة بكار أن نقاط الانطلاق في الأعمال الفنية مختلفة وليست هناك وصفة موحدة.فقد تكون نقطة البداية صورة وفي بعض الأحيان لقاء عابر وفي مناسبات أخرى كتاب كما هو الشأن في مسرحية «جنون» وقد بدأت جليلة بكار سنة 2000 التفكير في هذا الموضوع بعد قراءة كتاب الكاتبة الفرنسية المعروفة Marguerite Daras بعنوان Barrage contre le pacifique وفي نفس الوقت قرأت جليلة بكار حول نفس الموضوع كتاب ناجية الزمني بعنوان Psychanalyse sans divan والذي يحكي محنة واستغاثة هذه الشخصية التي يرويها الطبيب النفسي .ومن خلال هذا الألم الشخصي يحكي الكتاب ألم العائلة ووجع المجتمعات واختناقها.

كما يمكن أن يكون الهوس أو هاجس خفي نقطة انطلاق العمل الإبداعي أو المسرحي كما كان الشأن بالنسبة للمسرحية»يحيى يعيش» سنة 2010 أي قبل بضعة أشهر من سقوط الطاغية.وكانت نقطة الانطلاق تساؤلات الفاضل الجعايبي حول الأنظمة الدكتاتورية وأسباب بقائها وهيمنتها بالرغم من نفور الناس منها.وقد تكون بداية العمل من قرار الفريق بالتفكير والاهتمام بفترة تاريخية معينة كما كان الشأن في مسرحية «خمسون» والتي تم إنتاجها سنة 2006 بمناسبة الذكرى الخمسين للاستقلال وكانت فرصة للفرقة للقيام بقراءة نقدية لتجربة الدولة الوطنية وبصفة خاصة للحديث عن الأحلام المغدورة لأبناء الاستقلال.

إذن تختلف نقاط الانطلاق وبدايات الأعمال المسرحية لكن تلتقي كلها حول هدف واحد عند جليلة بكار وهو الانغماس في الأنا الجمعية ومحاولة فهم وقراءة تضاريسها وتعقيداتها.ومن هنا ينطلق العمل وتبدأ المغامرة بالبحث عن مسرح تم التفكير في فريق الممثلين والذين سيكون لهم دور هام في كتابة النص.ومن هذه الفكرة ستنطلق المغامرة الجماعية وسيأخذ هوس الإبداع كل الفريق والذي لا يقتصر على الممثلين بل كذلك الفنيين لبناء اثر يلتقط سحر اللحظة وأسرارها.
بعد هذه الملاحظات عن بدايات الإبداع واللحظة الصفر التي تنطلق فيها عملية اختزال الواقع .

نعود إلى البدايات في هذه المسيرة الإبداعية وكالعديد من زملائها من هذا الجيل فقد بدأ الهيام وحكاية العشق مع المسرح منذ سنوات الدراسة الأولى مع تجارب المسرح المدرسي في بدايات الدولة الوطنية وقد بقي الكثير من نشوة وحماس هاته السنوات الأولى للاستقلال في ذاكرة جليلة بكار .إلا أنها كانت نشوة يشوبها شيء من الألم والحزن عندما اكتشفت أن والد إحدى صديقاتها كان قابعا في السجن جراء قناعاته اليوسفية. وكانت هذه الحادثة بداية تساؤلاتها حول الدولة الجديدة وقدرتها على استيعاب الام وتناقضات الحركة الوطنية.

إلا أنه وبالرغم من هذه المخاوف والتساؤلات الأولى فقد انغمست جليلة بكار بكل جوارحها في هذه الحركية الثقافية وهذا الهوس الثقافي الذي فتحته المدرسة.فانخرطت في فرق التمثيل المدرسي والموسيقي .وشاركت في عديد المهرجانات المسرحية كمهرجان صفاقس حيث تحصلت على عديد الجوائز .إذن تأثرت جليلة بكار كالعديد من أبناء جيلها بهذه الطفرة الثقافية في المجال المدرسي والتي ستأخذ حيزا كبيرا في ذاتها لتصبح بعد سنوات المجال الوحيد لتحقيقها.

ولعل أهم تجربة ستقدم جليلة بكار للجمهور العريض هي مسلسل «ملاّ جن» والذي أخرجته للتلفزة المخرجة فاطمة سكندراني عن رواية Un bon petit diable لـComtesse de Ségur كلنا يتذكر بكثير من الحنين ما سميناه مسلسل «كموشة» وهذا الدور الهام الذي قامت به جليلة بكار ابنة التاسعة عشرة سنة أمام عمالقة المسرح التونسي كعبد السلام البش.وبقيت في مخيالنا الجمعي تلك الفتاة الرقيقة ثاقبة النظر والتي تصدت بكثير من الحب والود لمخزون الكراهية والحقد القادم من الآخر.

وسيكون لهذه التجارب تأثير كبير على مسيرة جليلة بكار فاثر الباكالوريا وبعد قضاء بعض الوقت في الجامعة التونسية لدراسة الأدب الفرنسي ستنقطع نهائيا لتتجه كليا للمسرح وهاته العلاقة الوجدانية بالخشبة.ولعل خصوصية تجربة جليلة بكار وعلى خلاف كبار المسرحيين من جيلها هي دخولها للمسرح بدون المرور بمدرسة وكأن علاقة العشق والهيام لا تحتاج الى وسيط.

وستتجه أنظار جليلة بكار في بداية هذه المسيرة إلى فرقة قفصة والتي التقى فيها الأبناء المؤسسون للثورة المسرحية القادمة كرجاء فرحات ورؤوف بن عمر والفاضلين الجزيري والجعايبي وسمير العيادي وحمادي بن عثمان إلى جانب عديد المسرحيين من الجهة كعبد القادر مقداد وقد تمكنت هذه الفرقة بعد أعمال هامة كـ»جحا والشرق الحائر» سنة 1973 و»سيرة محمد علي الحامي «من شد انتباه كل المتابعين للحركة التجديدية في المسرح التونسي.

وستلتقي جليلة بكار مع الأبناء الثوريين للمسرح التونسي في مسرحية «السيرة الهلالية» وبعد تجربة فرقة قفصة ستبدأ جليلة بكار تجربة «المسرح الجديد» مع المرحوم الحبيب المسروقي والفاضلين الجعايبي والجزيري ومحمد إدريس.وستنتج هذه التجربة أعمالا تأسيسية للحركة المسرحية في بلادنا «كالعرس «و»التحقيق» .ثم ستكون المسرحية الحدث «غسالة النوادر» والتي ستشكل ثورة وقطيعة راديكالية في الكتابة المسرحية في بلادنا.

إلا أن نهاية السبعينات ستعرف تراجعا كبيرا للحريات في بلادنا وتصعدا للقمع والتضييق على أعمال المبدعين والساحة الثقافية بشكل عام.سيرفض مسرحيونا هذا الوضع الجديد وسيضعون استقالة جماعية من مركز الفنون الدرامية للتعبير عن سخطهم ورفضهم لانحراف دولة الاستقلال وتراجعا عن مبادئ الحرية والتعدد.
وستكون هذه الاستقالة نقطة انطلاق لتجربة ومغامرة جديدة.فستلتقي المجموعة في تجربة المسرح الجديد في مسرح صغير اسمه «الليدو» في باب سويقة وستكون هذه الفترة هي أصعب الفترات في تاريخ المجموعة حيث ستضطر إلى مواصلة عملها الإبداعي بدون اي سند عدى دعم العائلة وبعض الأصدقاء.

وستمكن فترة الانفتاح السياسي الذي ستعرفه بلادنا في بداية الثمانينات المجموعة من مواصلة عملها وسيسمح وزير الثقافة آنذاك الرئيس فؤاد المبزع بتصوير مسرحية «غسالة» النوادر» للتلفزة وإذاعتها في سهرة ستبقى حدثا مهما في التاريخ الثقافي .إلا أن هذه الفترة ستشهد حدثا أليما بعد موت احد أركان المسرح الجديد الحبيب المسروقي في سن الثلاثين.كما ستعرف هذه الفترة انسحاب محمد ادريس ليقتصر المسرح الجديد على ثلاث شخصيات وهي جليلة بكار والفاضلين .وبالرغم من هذه الغيابات ستواصل المجموعة عملها لتنتج مسرحية «لام» سنة 1982 والتي ستتعرض للوضع المأساوي وأزمة الدولة الوطنية.

ثم ستخوض المجموعة تجربة جديدة وهي مسرحية «عرب» والتي سيتواصل عرضها لمدة ثلاث سنوات ثم ليقع تصويرها في شريط سينمائي وستخوض الفرقة تجربة الإنتاج المشترك مع المسرح الوطني في مسرحية «العوادة» و»كوميديا» ثم فيلم الشيشخان.
وستكون بداية التسعينات نهاية تجربة المسرح الجديد بعد الخلاف مع الفاضل الجزيري وانسحابه لخوض مغامرات وتجارب اخرى.

إلا أن تجربة جليلة بكار لن تقف هناك بل ستنطلق مع الفاضل الجعايبي والحبيب بالهادي في تجربة جديدة مع «Familia Prod » والتي ستقوم بإنتاج عديد الأعمال الهامة كـ«فاميليا» و«عشاق المقهى المهجور» و«سهرة خاصة» و«البحث عن عائدة» والتي ستكون أول نص تمضيه جليلة بكار بطريقة منفردة وستتواصل الإبداعات والأعمال خلال سنوات الألفين بانتاجات هامة كـ«جنون» و»خمسون» و«يحي يعيش» و«تسونامي» سنة 2013 و»عنف» سنة 2015 و»خوف» هذه السنة.

هذه في بضعة اسطر أهم المحطات في مسيرة جليلة بكار الإبداعية وفي علاقة العشق التي جمعتها بخشبة المسرح على مدى عقود.ولكن السؤال يطرح نفسه بكل إلحاح هو كيف تمكنت جليلة بكار وهؤلاء المسرحيون الرواد من القيام بثورة مسرحية راديكالية أسست لمسرح جديد لا فقط في بلادنا بل كذلك في المنطقة العربية.ولفهم أهمية وقوة هذه الثورة لابد من العودة إلى تاريخ المسرح في البلاد العربية.فعلى خلاف البلدان الأوروبية والتي عرفت المسرح منذ قرون طويلة فان تاريخ المسرح في بلادنا والمنطقة العربية بشكل عام جديد يعود إلى القرن العشرين.وقد دخل المسرح في بلادنا في الفترة الاستعمارية عن طريق الفرق القادمة من أوروبا والتي كانت تزور بلادنا لإحياء بعض العروض من وقت لآخر.وقد كانت هذه العروض تقتصر على النصوص المسرحية الكلاسيكية لشكسبير وغيره من المسرحيين والمؤلفين الكلاسيكيين.

وقد لعبت هذه الفرق دورا كبيرا في تطور الحركة المسرحية في بلادنا وظهور فرق مسرحية في اغلب البلدان العربية إلا أن هذه الفرق اتبعت هذا المنوال الغربي وانخرطت فيه من خلال اعتمادها على النصوص المسرحية الكلاسيكية.وبالرغم من أهمية هذا العمل التأسيسي فانه يبقى منبتا وقليل الصلة بالحركة الاجتماعية في بلداننا.وهنا تكمن أهمية مسيرة جليلة بكار والجيل الذي صاحبها في إعادة بناء الحركة المسرحية على أسس جديدة.والسؤال الذي يمكن ان نطرحه هو كيف نجحت هذه الحركة في تأسيس ثورة مسرحية مرتبطة بالحركة الاجتماعية ومنخرطة فيها حد النخاع.

طبعا الإجابة عن هذه الإشكالية ليست بالسهلة وتتطلب دراسات معمقة.لكني أريد الإشارة إلى عاملين مهمين ساهما في هذه الحركية ودعمها .العامل الأول في رأيي يكمن في تغيير النظرة للعمل المسرحي وماهيته وطبيعته . فالعمل المسرحي انتقل مع هذه الفرق والمجموعات من اجترار الأعمال المسرحية الكلاسيكية إلى علاقة جديدة ونظرة على الواقع تهدف الى محاولة مسك وقراءة اختلاجاته وتفاعلاته . فالمسرح والكتابة المسرحية تهدف إلى التقاط هذه اللحظات الفارقة لفهم وقراءة مشاعر الناس وأحاسيسهم. وهذا الاختيار الفني والإبداعي هو في جوهر كل أعمال جليلة بكار .فالعمل الأخير «خوف» مثلا يعمل على سرد وقراءة حالة التشرد والضياع التي نعيشها اليوم بعد بضع سنوات من تسونامي الثورة.ولئن انتقد العديد سوداوية العمل فان جليلة بكار تشير أن هذا العمل فيه الكثير من التفاؤل إذ يؤكد أن الشعر والإبداع هو طريقنا للخروج من حالة الاكتئاب الجماعي والى جانب هذه النظرة الجديدة للمسرح كمحاولة مسك وقراءة اختلاجاتنا وأحاسيسنا الجماعية فان نجاح هذه التجربة وأهميتها تكمن في أنها جعلت الإبداع فعلا جماعيا .فقد كانت الكتابة والنصوص نتيجة نقاشات جماعية

مطولة وفي بعض الأحيان شاقة بين هاته المجموعة الهامة من الممثلين والمبدعين إلى جانب جليلة بكار ومنهم الفاضلين الجزيري والجعايبي والحبيب المسروقي.كما كان الشأن كذلك للإخراج وكل الأعمال الفنية الأخرى ولم يكن من الممكن فصل عمل أي مبدع عن عمل الآخرين لتتشابك الأدوار وتتداخل وتعطي للأثر الفني ولمسرحياتهم هذه القوة والعبق الذي يميزها عن غيرها من الأعمال.

تتحدث جليلة بكار عن هذه المسيرة بكثير من العفوية والبساطة وكأنها لا تعي أن أعمالها إلى جانب هذه المجموعة أدخلت ثورة وتسونامي لا فقط في المسرح التونسي بل كذلك في المسرح العربي.لقد نجحت جليلة بكار من خلال هذه المسيرة في نحت تجربة فنية جديدة جعلت من المسرح مجالا لمسك إرهاصات وآمال الناس وأحلامهم.كما أكدت هذه التجربة الإبداعية أن المسرح ليس فعلا فرديا مهما بلغت القيمة الفنية للأفراد بل هو مخاض جماعي يسعى إلى قراءة الاختلاجات الدفينة في الذات الجماعية .لهذا وأكثر ستبقى جليلة بكار سيدة وأيقونة الحلم الجماعي في المسرح.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115