حديث الأنا: في حرّ الصيف والريح الشهيلي V - أنا حمّال في فرنسا

في السنوات السبعين والثمانين، لمّا كنّا الى الحداثة نسعى، كان السفر الى بلاد الغرب أمرا يسيرا وكانت بلاد الغرب تسكن قلوبنا ونراها في أعيننا أرحب وأرحم. في الصيف، كلّما استطعت، أرحل الى فرنسا حيث يقيم العديد من الأخلّة ولي فيها أهل وقربى. في فرنسا، أشتغل شهرا أو أكثر وأربح مالا وأنظر في الناس

كيف تسير على الأرصفة وكيف تحيا وأتعلّم كيف يكون العيش المشترك وأشياء أخرى. مرّات عدّة، سافرت الى فرنسا وفيها اشتغلت وكسبت نظرا وخبزا...

مرّة، في شالون، وسط فرنسا، اشتغلت حمّالا. الحمل يلزمه جهد وقوّة وكنت أيّامها شابّا مكتمل الجسم، قويّا. في عربة مخصّصة، كنّا نحمل بضائع مختلفة: ثلاجات، مطابخ، غسّالات، طاولات وغيرها من السلع الأخرى. كنت وسائق العربة، كلّ صباح، نحمّل البضاعة، نتجوّل من قرية الى قرية، من دار الى دار، نسلّم البضاعة الى أصحابها ونمضي الى ديار أخرى. هو شغل فيه جهد. هو شغل جميل، يتجدّد. في كل بيت، نتوقّف ردهة، نسلّم البضاعة الى أهلها. نقضي مع الحريف ساعة أو أقلّ. نتحدّث عن الطقس، عن سباق الدرّاجات، عن أمور مختلفة. نشرب عصيرا أو خمرا. لا أشرب الخمر يومها. كنت يومها غرّا. في كلّ مرّة، أطلب كأس ماء بارد أو عصيرا مثلّجا. يسألونني من أنا ومن أين أتيت ولم لا أشرب الخمر. باعتزاز أقول أنّي طالب، قادم من تونس لأشتغل صيفا. كنت يومها أفتخر بانتمائي الى هذه الأرض. كنت يومها أحبّ وطني. انتهيت اليوم من حبّ الأوطان. أحيانا كثيرة، أخفي من أنا ومن أين أتيت وقد غدا الكثير من التونسيين اليوم قتلة. يؤسفني حقّا أن أكون تونسيّا والتونسيون في كلّ بقعة يفسدون في الأرض، يرهبون الناس، يقصفون الأرواح البريئة، يخرّبون العمران... أحيانا أكره نفسي. أحيانا أقول: ليتني لم أكن حيّا.

كنت حمّال بضاعة. كنت بين القرى والبيوت أتجوّل. أسلّم الناس مشترياتهم. في كل زيارة، ألقى لدى أهل البيت ترحابا بل أرى فيهم بعض عطف ومودّة. الفرنسيون طيّبون غالبا ولهم بنات ذات بهاء وجمال. أنا أيضا كنت بهيّ الطلعة. مكتمل الجسم. في وجهي حسن وفي عينيّ خضرة. لي شعر طويل ولحية كثّة. ألبس قبّعة كتلك التي يحملها غيفارا. كنت أعشق تشي غيفارا. كنت معجبا بما أتى من مقاومة ومن ثورة. ثمّ كان أن قرأت للمرحوم بعض ما كتب فتبيّنت ما كان للرجل من مثاليّة وجعجعة. لمّا كنت طالبا يساريّا، كنت حالما، غرّا. بعض الثوّار ممّن ذاع صيتهم في الأرض وأصبحوا علامات مميّزة، هم، حين دقّقت النظر في ما يحملون من فكر ومن تصوّر وجدته مجرد فقّاع لا أكثر ولا أقلّ. لا نظر لهم ثاقب ولا عمق...
منذ الصباح وطوال النهار، أنا والسائق نتجوّل بين القرى والبيوت. أحيانا، أرى في أعين النسوة بعض تعجّب. أحيانا أرى في أعينهنّ بعض اعجاب. أحيانا، أرى أكثر. في البيوت، قد تصادفني فتيات جميلات كلّهن بهاء ورقّة. ان شاءت الصدف، أتحدّث اليهنّ. أقول لهنّ أشياء عنّي وعن من أحبّ وبمن أنا معجب. أحبّ الحديث مع الصبايا. ألقى في الحديث معهنّ متعة وانشراحا. في كلّ بيت، أتدرّب على الكلام. أظهر ما لي من معرفة وحسن اطلاع. أحيانا أتغزّل ولا أعلم كيف التغزّل بالفرنسيّات. أحيانا كثيرة أفشل في المسعى. أحبّ الحديث مع النساء وتراني معهنّ في قيل وقال وفي ضحك لا ينتهي. لولا أنّي في شغل لبقيت إلى جانبهنّ النهار كلّه والليل أيضا... انّه لشغل ممتع، جميل هذا الذي أشتغل. أنا حمّال بضاعة وألقى في عملي ترويحا عن النفس وأجرا ونشوة. بفضل شغلي، أدخل بيوتا مختلفة. بفضله، أتحدّث مع الرجال والنساء ومع الصبايا. في كلّ بيت، أشرب عصيرا حلوا وآخذ كرامات أيضا. أحبّ عملي هذا وكلّ صباح أمشي الى شغلي منشرحا، مستعدّا. ليتني بقيت حمّالا في فرنسا...

مرّة، في قرية حلوة، في بيت كلّه أزهار وورد، لقيت بنيّة في مثل عمري أو أقلّ أو أكثر. للبنيّة نضارة وجمال ولحم... دخلت والسائق البيت. سلّمنا البضاعة. جلسنا نشرب ما توفّر من شرب. كان السائق يحبّ النبيذ بأنواعه. كنت أحبّ العصير بأنواعه. كنّا جالسين وأبويّ البنيّة نحكي في حكايات مختلفة، في الطقس وأحواله، في الكرة، في الحياة، لمّا دخلت بنيّة بهيّة، سبحان الخالق الوهّاب. نظرت اليها. شدّني وجهها المضيء. جلست قبالتي. لا تقول شيئا. تلعب بشعرها المتدلّي. أحيانا، تنظر اليّ. أحيانا، أنظر اليها خلسة وأعيد النظر مرّات أخرى. في ذاك البيت، شربت كأسين من عصير الرمّان والتفّاح. تحدّثت مع الأبوين ومع البنيّة. أعجبتني البنيّة. هي حقّا صبيّة جميلة، بهيّة. لها خدود ورديّة وصدر عليّ وشعر حريريّ. شدّ انتباهي ما كان لها من صدر ممتلئ ونهدان مرتفعان كأكداس رمل، كسهام منصوبة في اتجاه عينيّ. ماذا تريد البنيّة؟ هل هي تريد أن تقول شيئا؟ أنظر اليها وفيّ اضطراب. أحادثها بشغف في عدّة تفاهات. أنا معجب بالبنيّة. أنا مبهور بما تحمل البنيّة من وجه وضّاء ومن صدر ممتلئ ومن لحم طريّ. هي تنظر اليّ. شدّتني رعشة. ما لها تنظر اليّ؟ أظنّها معجبة بيّ. على شفتيها ابتسامة. طال الحديث. طالت الزيارة. انتهت الزيارة. يجب أن نغادر البيت، يقول السائق مرّة ومرّة. عليّ أن أنهض. أن أنصرف. أن أغادر البنيّة. كيف لي مغادرة البنيّة؟ أغادرها دون أن أبني علاقة، دون أن أقول لها ما في الفؤاد من وجد؟ لا أستطيع ترك البنيّة. أنا أحبّ البنيّة. أودّ أن أبقى حذوها، أن أضمّها إلى صدري، أن أقبّل شفتيها وخدّيها، أن أحشر رأسي بين ثدييها... زرت عشرات البيوت. لقيت عشرات الصبايا ولم ألق مثل هذه الصبيّة. هذه زيارة مباركة. هذه هديّة ربّانيّة. هذه البنيّة أرسلتها اليّ الأقدار العليّة...

رغم ما كان لي من ثقة في النفس، رغم ما كان لي من جسور، لم أستطع أن أقول شيئا، أن أبوح بحبّي للبنيّة. بقيت أنظر فيها وأنا أخرج من البيت مضطرّا. ألتفت الى الوراء لأراها وأنظر في عينيها. كانت تتابعني بعينيها. جسمي يتمزّق. نظري يتقطّع. أريد أن أبقى مع البنيّة، أن أنظر في صدرها، في عينيها. كنت أمام الدار لمّا رأيتها تفتح النافذة من فوق. ها هي بيدها تشير اليّ. ها هو نظرها يمسك بعينيّ. وقفت أنظر في البنيّة. في قلبي نار. أنا أعشق البنيّة... في وجوم، كنت أنظر كالنعجة الى الصبيّة. أنا حقّا نعجة غبيّة. ها أنا أنصرف، أمتطي العربة. أغادر. أمشي الى ديار أخرى. تركت البنيّة وصورتها عالقة في عينيّ. هي فرصة ضاعت عليّ. كم أنا جبان. كم أنا غبيّ...

(يتبع)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115