الأدب والرواية وتجربة بناء الذات

عرفتُ الكاتب الكنغولي الأصل Alain Mbanckou عن طريق الصديق الكامروني وأستاذ العلوم السياسية والتاريخية Achille Mbembe منذ سنوات عندما كان في بداياته الأولى. وقد أصبح في سنوات قليلة أحد أهم الروائيين في فرنسا وترجمت كتاباته إلى عديد اللغات في العالم.

وقد نشر أولى رواياته سنة 1998 تحت عنوان « Bleu+blanc+rouge » مباشرة إثر انتصار فرنسا في نهائي كأس العالم لكرة القدم بقيادة الجزائري زين الدين زيدان والغاني مارسال ديسيي وقائد الفريق الفرنسي وممرن فريق الديكة آلان ديديي دوشان.
قد كان لهذا الانتصار باعتباره الأول في تاريخ فرنسا تأثيرات كبيرة لا فقط على المستوى الرياضي بل كذلك على المستوى السياسي. فقد خلق هذا الانتصار حملة من التضامن والحركية الاجتماعية ومظاهر فرح لم تعرفها فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتحرير باريس.

وقد اعتبر العديد أن هذا الانتصار هو نتيجة لاعتراف فرنسا بتعددها وجعل كل مكوناتها عناصر قوة تساهم في دفع البلاد إلى الأمام. فقد ساهم في هذا الانتصار الفرنسي الأصل والعربي والإفريقي وغيرهم من الأطياف والجنسيات المختلفة التي كانت موجودة في فريق الديكة في تلك الفترة. وكان هذا الانتصار أدى إلى تجاوز هذه الفوارق والانصهار في نظام واحد وهو ما يدعو إليه النظام الجمهوري في فرنسا.

لكن في خضم هذا الانتصار وهذه النشوة جاء صوت Alain Mbanckou المنشق والذي أكد أنه لا يمكن الحديث عن فرنسا واحدة نتيجة الاختلاط بين البيض والسود والعرب ما دامت الفوارق الاجتماعية في ذروتها وما دام أبناء الجاليات المهاجرة يعيشون التهميش والتمييز العنصري والبطالة والقمع البوليسي. فكانت روايته الأولى « bleu, blanc, rouge » صوتا نشازا في ظل الإجماع الحاصل في تلك الأيام حول نهاية الاختلافات الاجتماعية والعرقية وقدرة الجمهورية في صهرها في مفهوم المواطنة.

إلا أن الأيام ستعطي الحق للأديب والكاتب وقدرته على الاستقراء والنفوذ إلى التناقضات التي تشق المجتمع وتساهم في الرفع من حدة الاختلافات وأزمة الجمهورية ونمط الاندماج الفرنسي. فسيصعد اليمين وأقصى اليمين في فرنسا وسيساهمان في صعود الخطاب العنصري وتزايد الاعتداءات البوليسية على أبناء المهاجرين وتهميشهم مما سيضع البعض منهم في أحضان بائعي الأوهام والموت والسفر إلى سوريا والعراق للبحث عن سراب دولة الخلافة. إذن سيعرف Alain Mbanckou صعودا كبيرا في السنوات الأخيرة منذ روايته الأولى ليصبح أحد أهم الروائيين في فرنسا وأحد الأصوات التي نجحت في التعبير عن آمال المهاجرين الأفارقة في العواصم الأوروبية وأحلامهم الضائعة.

وإلى جانب أهميته الأدبية فقد ساهمت الشخصية الطريفة mabanckou في الشهرة الواسعة التي سيتمتع بها. فالكاتب من عشاق الموضة وقد أصبح في باريس أحد ممثلي ما يسمى بمجموعات sape أو Société des ambianceurs et des

personnes élégantesوهي مجموعات إفريقية جعلت من الأناقة والطرافة في اللباس ديدنهاو هدفها في الحياة. وتفتخر هذه المجموعات بانتماء Alain Mbanckou إليها باعتباره أحد المثقفين القلائل الذين اعتمدوا هذا النظام في العيش.
تميز كاتبنا بإنتاجه الغزير في السنوات الأخيرة من الروايات والقصص ليتبوأ مكانة هامة في الإنتاج الأدبي لا فقط في فرنسا بل على المستوى العالمي. وقد تحصل على عديد الجوائز العالمية لعل أهمها جائزة « renaudot المشهورة في فرنسا سنة 2006 عن روايته « mémoires de porc-épic » إلا أن أهم اعتراف بالأديب وبمساهماته الفكرية يعتبر دعوته للانضمام إلى collège de France أو كوليج دو فرنس وهي المؤسسة الفرنسية ذات الصيت الكبير ليكون عضوا فيها في السنة الحالية. وإلى جانب شهرته الأدبية وأهمية رواياته فإن دعوته للانضمام لهذه المؤسسة العريقة يمكن أن نفسرها لكون Alain Mbanckou ليس فقط قصاصا وكاتبا بل هو كذلك أستاذ جامعي في الأدب ويدرّس في جامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية.

وسأخصص هذا المقال للحديث عن الدرس الافتتاحي الذي قدمه في الكوليج منذ أسابيع والذي صدر مؤخرا في كتاب صغير عن فايار الفرنسية تحت عنوان « Lettres noires : des ténèbres à la lumière » وهذا النص في رأيي هو دعوة للتفكير حول علاقة الأدب والرواية بتجربة الذات. أود الإشارة قبل الغوص في هذا المؤلف إلى أهمية كوليج دوفرنس الذي فتح أبوابه سنة 1530 وتم تحديد دوره منذ ذلك الوقت لا فقط في تقديم والتعريف بالعلوم الجديدة بل وبصفة خاصة في تمكين الناس من الاطلاع على الإبداعات والتطورات العلمية ونتائج البحوث الجديدة في كل الميادين. وقد تمت هيكلة الكوليج حول 52 كرسي دراسات في كل مجالات العلوم والفكر والثقافة والإبداع ويقع اختيار الأساتذة الجدد من قبل الأساتذة الحائزين على كراسي.

ويقوم الأستاذ الذي تم اختياره بتقديم جملة محاضرات في مجال اختصاصه يقدم أبرز التطورات التي عرفها هذا المجال في السنوات الأخيرة وهذه المحاضرات مفتوحة لجميع المواطنين حسب برنامج محدد ولعل أهم مناسبة في كل كرسي دراسات هي الدرس الافتتاحي الذي يقوم به كل أستاذ في بداية برنامجه الدراسي يقدم فيه عصارة الفكر والنتائج البحثية والعلمية في مجال اختصاصه ونظرا لأهمية هذه المحاضرات فقد أخذ الكوليج على عاتقه مسؤولية نشرها في كتاب يقع توزيعه على أوسع نطاق لتعم الفائدة وليطلع الجمهور الواسع والعريض على آخر تطوراته العلمية.

وقد خصصه الكاتب والقاص Alain Mbanckou للحديث عن تجربته ووضعها في إطار تطور الأدب الإفريقي منذ بداياته ويشير إلى أن هذه البدايات انطلقت مع الرواية الكولونالية وأدب الرحالة الذين سافروا إلى أدغال القارة الإفريقية ليعودوا إلى المركز الأوروبي محملين بملاحظاتهم وأفكارهم التي دوّنوها خلال أسفارهم والتي سيحولونها إلى روايات وملاحم.

ولعل الغالب على هذه الروايات الأولى والقصص هي النظرة التي تسوقها للآخر والتي تتميز بالدونية واعتبار الآخر غريبا عن عالمهم ومن خلال هذه الروايات يطمح الرحالة إلى التأكيد على مبادئهم ومجتمعاتهم على مبادئ ومجتمعات الآخر والتي يعتبرونها لاتزال ترزح في عهد الظلمات والتوحش وسيادة قانون الغاب.

وهذه القراءات والتحاليل تساهم في بناء الذات الأوروبية وإعلاء الأنا على الآخر وطمأنة المواطن الأوروبي على سيادة وعلوية الحداثة وقيم الديمقراطية وكونية حقوق الإنسان التي أتت بها الثورات الأوروبية وعصر الأنوار والثورات الصناعية في القرن التاسع عشر وهكذا سيلعب الأدب والرواية دورا هاما في نحت الذات أو الأنا الأوروبية وعلوّها وسيادتها. وسيكون لأدب الرحالة الكولونيالي لا فقط في إفريقيا بل وكذلك في المنطقة العربية وكل البلدان المستعمرة دور هام في هذا المجال من خلال إعطائها صورة دونية عن آخر مازال لم يتخلص من هيمنة مبادئ المجتمعات التقليدية وسيطرة العنف وهيمنة الدين والخرافة التي تشكل آفاقه ومجال تفكيره السياسي.

ويعتبر الكثيرون أن قصة «Au cœur des ténèbres» للكاتب القاص البريطاني Joseph Conrad هي مثال عن هذه النظرة والأدب الاستعماري. وتحكي هذه الرواية التي صدرت سنة 1899 سفر ملاّح بريطاني على أحد الأنهار في قلب القارة الإفريقية

من أجل وضع خط تجاري بين أدغال القارة وأحد المراكز التجارية على المحيط ومن خلال سرده لمغامراته فإن كونراد يقدم لنا هذه السفرة على أنها رحلة خروج من الحضارة والإنسانية وغوص في عالم التوحش وتغول الطبيعة والعنف.
وقد شكلت هذه الرواية في النظرية الأدبية أهم مثال على الأدب الكولونيالي وعلى النظرة التي عمل على تسويقها للآخر واعتباره متخلفا وغير قادر على التخلص من هيمنة الطبيعة والخرافة وتهميشه للفكر وهو بذلك يساهم في طمأنة الذات الأوروبية والتأكيد على سيادة وعلوية مبادئها فإن كان الآخر مازال يعيش في عصر الاستلاب فإن السيد الأبيض أو الأوروبي دخل عصر الحرية والفعل من خلال الأنوار التي جعلت من العقل والتخلص من الأوهام والفكر مبادئه وديدنه في الحياة.
وبالرغم من أن كونراد كتب رواية «عصر الظلمات» إثر زيارة للكنغو واهتمامه أساسا بالأفارقة في الأدغال في علاقة بالبحارة والتجار الأوروبيين فقد أصبح لهذه الرواية رمزية كونية حتى أن إدوارد سعيد سيعتبرها نقطة انطلاق للفكر الاستشراقي وللنظرة الدونية للآخر غير الأوروبي مهما اختلفت المشارب والجنسيات.

ويشير Alain Mbanckou أن البدايات الأولى لظهور الأدب الإفريقي ستكون في شكل انتفاضة ورفض للذات الإفريقية كما يصورها الأدب الكولونيالي وذلك منذ بداية ثلاثينات القرن الماضي وستعمل هذه الإرهاصات الأولى إلى كتابة سردية جديدة تنطلق من الداخل وتسعى إلى نحت ذات إفريقية مختلفة وتحاول الالتصاق بآمالها وأحلامها وحتى رفضها للظلم والقمع الاستعماري.

وسيكون مؤتمر الأدباء والفنانين الأفارقة في باريس سنة 1956 والحركة الزنجية la négritude التي سيطلقها الشاعران سنغور (senghor) وإيمي سيزار (aimé césaire) نقطة انطلاق لمغامرة كبرى للأدب الإفريقي ولمساهماته في بناء ذات جديدة والالتصاق بالإنسان الإفريقي وبآماله وأحلامه وستسعى أجيال عديدة من الأدباء والكتّاب الأفارقة لإعطاء صورة أخرى ومغايرة عن الذات الإفريقية ومعاناتها فنجد جيل أباء الاستقلال مثل السينغالي sembéne ousmane والكامروني Mongo Beti الذين انتقدوا بطريقة راديكالية الاستعمار ونظرته للأفارقة.

ولعل أشهر أدباء هذه المرحلة الأولى الكاتب السينغالي الكبير الشيخ حميدو كان « Cheikh Hamidou Kane » وروايته الشهيرة « L›Aventure ambiguë » والتي يحكي فيه حالة الانفصام الذي يعيشه بين التقاليد الإفريقية ومبادئ الحداثة التي أدخلتها للدولة الحديثة.

ثم سيأتي جيل الروائيين المستائين والناقدين لأزمة مشروع الدولة الوطنية وتحولها إلى دولة استبدادية ونذكر من هذا الجيل الإيفواري Ahmadou Kourouma والكونغولي henni lopes والكنغولي Sony Labou Tansi وغيرهم. ليأتي الجيل الثالث الذي نعرفه اليوم والذي نجد فيه إلى جانب Alain Mbanckou العديد من الأدباء أذكر منهم الجبيوتي Abdourahman Waberi والسينغالية Fatou Diome ليدخل الأدب الإفريقي كغيره من الآداب الأخرى مرحلة رفض الأنا الجمعي والغوص في أعماق الذات لفهم تقلباتها وصعوباتها وانكساراتها.

لقد كان الدرس الافتتاحي لـــ Alain Mabanckou كعادته شيّقا وطريفا ومميزا من خلال هذه القراءة لتطور الأدب الإفريقي والعلاقة الحميمة والوثيقة بين السرد الأدبي وبناء الذات والنظرة للآخر. فلئن سعى الأدب الاستشراقي إلى بناء صورة دونية للآخر لتؤكد وتدعم هيمنة الغرب فإن روائيي الجنوب حاولوا من خلال قصصهم إعطاء صورة أخرى للذات وللأنا من خلال الالتصاق والانغماس في واقع مجتمعاتنا لرصد وسرد آمالنا في أن نكون جزءا من الكون نساهم في نحت مبادئه وأفكاره كما حلمه وأمانيه.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115