الديمقراطية في فلسطين، وضوح المطالب وغموض الوسائل

بدأ المجتمع الفلسطيني بعد توقيع اتفاق أوسلو في عام 1994 توجهاً للإنفتاح على العالم بعد حالة من الانغلاق دامت أكثر من أربعين عاماً، بفعل ظروف الاحتلال القاهرة للضفة الغربية وقطاع غزة والقدس.

مع توقيع الاتفاق السلمي تم إنشاء العديد من المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كبنية تحتية لهذا المجتمع إلى جانب المؤسسة السياسية الكبرى المتمثلة في السلطة الفلسطينية، والعديد من المؤسسات والجمعيات والأندية التي قامت بناء على دعم أوروبي وأمريكي، ومن دول أخرى مثل اليابان والصين وغيرها، مما فتح الجدل الواسع حول إمكانية تحول المجتمع الفلسطيني من حالة الانغلاق التام إلى (تحول ديمقراطي) نحو المجتمع المدني.

هذا وواجه الشعب الفلسطيني الكثير من المعوقات نحو الديمقراطية، فهو لم يزل مجتمعا عشائريا، كما تأثر بالاحتلال من خلال هدمه للبنية الاجتماعية بعدم حصول الشعب الفلسطيني على أي تحول في بنية الأسرة، وخاصة في مسائل متعلقة بالمرأة، والطفل، والحقوق والواجبات، هذا بالإضافة الى عدم وجود مشروع وطني حقيقي يمكن أن يمهد لنواة مجتمع مدني.

من المعوقات أيضا صعود التيار الديني على حساب تراجع اليسار، بالإضافة الى التغلغل الكبير للأحزاب الشعبوية والدينية التي لا تقوم على منهج فكري، بل منهج سلطوي، والذي يعتبر المجتمع المدني أشد أعدائها، وكل هذه الأحزاب رجعية وإقطاعية، وبحاجة الى حركة تحرر منها قبل الوصول الى التحرر من الاحتلال، وانهيار المشروع الثقافي الفلسطيني، وتهميش دور المثقفين العضويين لصالح مثقفي السلطة».

يعتبر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 81 الصادر في 8 ديسمبر عام 2000 حول (تعزيز الديمقراطية وتوطيدها) واضحا، حين أكد على ثلاث قضايا مهمة وذات طبيعة إستراتيجية، أولها (لا وجود لنموذج عالمي واحد للديمقراطية)، وثانيا، (الديمقراطية لها طبيعة غنية ومتنوعة تنجم عن معتقدات وتقاليد اجتماعية وثقافية ودينية للأمم والشعوب)، كما أن (جميع الديمقراطيات تتقاسمها خاصيات مشتركة، أي أنها تقوم على أساس المشترك الإنساني للتجربة البشرية الكونية) ثالثا.كما ظهرت عدة عوامل أثرت في التحول الديمقراطي في الوطن العربي مثل هيمنة نخبة سلطوية على عملية التحول، إذ ما تزال النظم تحتكر الهيمنة على السلطة السياسية وتحول دون اكتساب فاعلين سياسيين الخبرة السياسية المؤثرة والقدرة على تفعيل مجتمعاتهم وأخذ زمام المبادرة، كما يبدو أن عملية التحول تتقدم ببطء شديد أو تراوح مكانها أو تتراجع في بعض الحالات.

وهناك عامل وضوح المطالب وغموض الوسائل، أي اتفاق الفاعلين السياسيين على التحول والانتقال الديمقراطي كهدف استراتيجي، مع عدم وضوح الرؤية حول وسائل تحقيق هذا الهدف وطرق تعزيز هذه الأهداف، بالإضافة الى الدور الخارجي، بحيث ان اهتمام الأطراف الخارجية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، بالدفع بأجندة الإصلاح ودعم التحول الديمقراطي قد أثار جدلا كبيرا وشكوكا كثيرة.

غياب الديمقراطية عن الوطن العربي يعود الى بروز زعامات سياسية حظيت بتأييد واسع من قبل الجماهير وبشعبية تعدت حدود الدولة الجغرافية، مما ساهم بشكل كبير في إطالة عمر الأنظمة الحاكمة المبنية على الزعامات.وهناك استبعاد لمبدإ التعددية بصفة عامة من الممارسة السياسية خوفا من استفحال الخصوصيات وتحت ذريعة الوحدة الوطنية لكن هذا لم يؤد إلى انصهار هذه الخصوصيات في بوتقة الدولة». فشل الأنظمة وزعاماتها في تحقيق الأهداف التي وعدت بها شعوبها وفي تحقيق الآمال التي علقت عليها وانتشار الفساد أدخل شرعيتها في عملية التآكل وحكمها في المزيد من التسلط هكذا تحول رموز الاستقلال والتنمية ومن خلفوهم في الحكم إلى طغاة مارسوا كل أنواع القمع والاضطهاد ضد شعوبهم فاقت في بعض الأحيان بشاعة الاستعمار.

لا بد من التنويه بالفكر السياسي والثقافة السياسية، فالفكر السياسي هو مجموعة من الأفكار والمبادئ والآراء السياسية التي تعاقب المفكرون من الناحية التاريخية في طرحها طبقا لاحتياجات مجتمعاتهم وظروفهم التي تأثروا بها وعاشوا فيها، حيث لا يمكن إحداث التحول الديمقراطي أو التنمية السياسية في ظل غياب الفكر السياسي الإيجابي القادر على بناء النظام الديمقراطي، وساهم هذا الفكر في تطور الأنظمة السياسية بالشكل الذي نراه اليوم في مختلف دول العالم.

الثقافة السياسية هي مجموعة المعارف والآراء والاتجاهات السائدة نحو شؤون السياسة والحكم، الدولة والسلطة، الولاء والانتماء، الشرعية والمشاركة، وتعنى أيضا منظومة المعتقدات والرموز والقيم المحددة للكيفية التي يرى بها مجتمع معين الدور المناسب للحكومة وضوابط هذا الدور، والعلاقة المناسبة بين الحاكم والمحكوم.الثقافة السياسية تتمحور حول قيم واتجاهات وقناعات طويلة الأمد بخصوص الظواهر السياسية، وينقل كل مجتمع مجموعة رموزه وقيمه وأعرافه الأساسية إلى أفراد شعبه، ويشكل الأفراد مجموعة من القناعات بخصوص أدوار النظام السياسي بشتى مؤسساته الرسمية وغير الرسمية، وحقوقهم وواجباتهم نحو ذلك النظام السياسي .

بقلم: د.حنا عيسى – أستاذ القانون الدولي

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115