حصاد السنة الأولى من العهدة الرئاسية: قيس سعيد والتحديات الدبلوماسية الصعبة

يوم 23 أكتوبر 2019 تسّلم رئيس الجمهورية قيس سعيد مهامه رسميا كساكن جديد لقصر قرطاج ، وهو الأستاذ الجامعي الذي قدم

الى عالم السياسة دون أن يمرّ عبر «بوابة» الأحزاب والعمل الحزبي ، بل مرّ مباشرة من رحاب كلية العلوم القانونية و الاجتماعية والسياسية التي يبدو أنه صنع فيها « شعبية» لافتة لدى طلابه في مادة القانون الدستوري إلى قصر قرطاج.
وكان وصول سعيد ومروره الى الدور الثاني للانتخابات الرئاسية بمثابة زلزال انتخابي صدم الأحزاب قبل الشارع. واليوم تطرح تساؤلات عديدة حول حصيلة عام كامل من العمل الدبلوماسي وأبرز التحديات والصعوبات التي واجهت الرئيس القادم من رحاب الجامعة التونسية في هذا المجال؟
لم يكن سهلا بالمرة ان يفوز مرشح للانتخابات الرئاسية بالأغلبية الساحقة في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، فكل هذا الزخم الشعبي الذي أحاط بسعيد في أول عهدته وضع أمامه أيضا مسؤوليات جساما ليست بالسهلة، فكان لزاما عليه ان يكون على قدر المسؤولية وعلى قدر ثقة الناخبين الذين منحوه أصواتهم .
أهم ملامح السياسة الخارجية
في خطاب تنصيبه، عرض قيس سعيد بعض ملامح السياسة الخارجية التي سيتبعها، فقد أكد على انتصار تونس لكل القضايا العادلة وأولها قضية الشعب الفلسطيني موضحاُ أن هذا الموقف ليس موقفا ضد اليهود على الإطلاق بل هو موقف ضد الإحتلال وضدّ العنصرية» على حد قوله. وفي خضم حملته الانتخابية وخاصة في المناظرة التلفزيونية التي جمعته مع باقي المرشحين أعطى للقضية الفلسطينية أولوية مطلقة . كما أكد بأن تونس ستحافظ على حياد موقفها بالنسبة الى الأزمة الليبية وان الحل يجب ان يكون ليبيا - ليبيا ... فهل ترجمت هذه المواقف الدبلوماسية على أرض الواقع أم ظلت مجرد وعود انتخابية؟
على مدى العام الماضي شهد قصر قرطاج العديد من اللقاءات الدبلوماسية في اطار الحركية الدبلوماسية التقليدية مثل زيارة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان يوم 25 ديسمبر 2020 وزيارة امير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يومي 24و25 فيفري 2020، كما أدى سعيد واجب التعزية في وفاة سلطان عمان يوم 12 جانفي 2020 وأمير الكويت يوم 1 أكتوبر 2020، إضافة الى المشاركة في الاحتفالات بمناسبة الذكرى 75 لتأسيس منظمة الأمم المتحدة يوم 21 سبتمبر 2020 ، وفي قمّة مجلس الأمن المنعقدة يوم 24 سبتمبر2020 حول الحوكمة العالميّة خلال مرحلة ما بعد وباء كورونا.
وقد تكون الزيارة الأكثر اثارة للجدل زيارة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان يوم 25 ديسمبر 2020، التي جاءت دون إعلان مسبق وأعطت انطباعا بأن تونس قد غيرت وجهتها نحو الحلف التركي في الأزمة الليبية وذلك قبل ان تتضح فحوى الزيارة خاصة بعد أن شنت تركيا تدخلا عسكريا مباشرا في ليبيا وبدلت من خلاله موازين القوى لصالح حكومة الوفاق بعد توقيع اتفاق أمني وعسكري بينها وبين أنقرة، وهو اتفاق أثار ولا زال الكثير من ردود الفعل داخليا وخارجيا .
ولكن موقف رئيس الجمهورية أكد على رفض تونس لأن تكون بوابة أو ممرا لأية عملية عسكرية واكد أيضا على حياد تونس الإيجابي من فرقاء الصراع وانها تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف . كما أكد في عديد المناسبات سواء اللقاءات المباشرة او الاتصالات الهاتفية مع نظرائه من رؤساء الدول العربية والأجنبية بان مواقف تونس ثابتة تجاه الملف الليبي وأنها تسعى لإيجاد حل سياسي سلمي ليبي ليبي دون أي تدخل أجنبي . هذا الموقف حصدت نتائجه تونس من خلال اختيارها لتكون محطة هامة من محطات الحوار السياسي بين الفرقاء الليبيين، فستحتضن في موفى هذا الشهر وبداية شهر نوفمبر حوارا مباشرا بين الليبيين برعاية الأمم المتحدة باعتبارها أرض لقاء ومصدر ثقة من قبل فرقاء الصراع .

وكان رئيس الجمهورية قد اجتمع بممثلي المجلس الأعلى للقبائل والمدن الليبية بتونس يوم 23 ديسمبر الماضي وذلك في اطار دعم الحوار السياسي الليبي الليبي.
وقد اعتبر وزير الخارجية عثمان جراندي مؤخرا بان احتضان تونس لحوار جديد بين الليبيين خلال هذا الشهر نجاحا للدبلوماسية التونسية معربا عن أمله بأن تؤدي هذه المباحثات الجديدة الى اختراق هام في جدار الأزمة الأكثر تعقيدا .
ولعل ما ساعد أيضا على استضافة بلادنا لهذا الحوار الهام هو مناخ التسوية الذي أخذ يسود الأزمة الليبية بعد المعارك الشرسة بين حكومة الوفاق وقوات حفتر وداعميهم الخارجيين، اذ باتت هناك قناعة بصعوبة الحسم العسكري لأي من الطرفين وان الحل لن يكون الا على طاولة المفاوضات. هذا علاوة على ان قرار حسم الأزمة الليبية مرتبط بالأساس بمواقف الدول الكبرى المؤثرة في هذا الملف.
ولعل أهم حصاد للدبلوماسية التونسية كان اعتماد مجلس الامن بالإجماع للقرار 2532 (2020) يوم 1 جويلية 2020 بمبادرة مشتركة تونسية – فرنسية حول جائحة كوفيد -19 ويمثّل هذا الإنجاز الحصاد الأهم والذي أتى على إثر جهود مكثفة قام بها الرئيس من خلال اتصالاته بالعديد من قادة الدول إضافة الى المدير العام لمنظمة الصحة العالمية. فهذه المبادرة التي انطلقت تونسية بالأساس تحولت الى قرار مشترك فرنسي تونسي، تتمّ العودة اليه اليوم في العديد من الملفات والصراعات الدائرة سواء في عدد من الدول الافريقية او غيرها .
اما في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية ورغم تأكيد الرئيس قيس سعيد في عديد المناسبات على مواقفه الثابتة تجاه فلسطين، الا ان موقف تونس تجاه موجة التطبيع التي شهدها العالم العربي كان غامضا وأثار جدلا واسعا وتساءل البعض عما إذا كان الرئيس الذي وضع شعار ّرفض التطبيعّ باعتباره خيانة عظمى أثناء حملته الانتخابية قد غيّر من قناعاته مع تسلمه الحكم . لكن حينما استقبل رئيس الجمهورية سفير فلسطين بتونس يوم 19 اوت 2020 أكد على موقف تونس الثابت الداعم للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وذلك دون التدخل في قرارات او توجهات أي من الدول الأخرى وان قرار التطبيع شأن داخلي لهذه الدول . كما أكدت الدبلوماسية التونسية من خلال مواقف رئيس الجمهورية أو وزير الخارجية بأن تونس ملتزمة بالمبادرة العربية للسلام وهي تتماهى بذلك مع مواقف عديد الدول الأخرى مثل الجزائر والكويت وغيرها وانه لا يمكن اتخاذ أي قرار يتعلق بمصير الفلسطينيين دون استشارتهم والعودة اليهم .
العلاقة مع دول الجوار والشركاء الأوروبيين
لعل من أهم ركائز الدبلوماسية التونسية الحفاظ على علاقات متينة مع الجوار سواء العربي او الافريقي او الشركاء التقليديين الأوروبيين وذلك بالتزامن مع العمل لتوسيع أطر العلاقات نحو شراكات جديدة . لذلك لم يكن صدفة ان يفتتح الرئيس قيس سعيد زياراته الرسمية في عهدته الدبلوماسية بالشقيقة الجزائر وتحديدا يوم 2 فيفري 2020 وذلك بدعوة من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون. وأعادت هذه الزيارة التأكيد على متانة الروابط التي تجمع البلدين سواء التاريخية او الجغرافية او السياسية. وتبعت هذه الزيارة إلى الجزائر زيارة عمل وصداقة الى فرنسا يوم 22 - 23 جوان 2020، وهي أول زيارة رسمية إلى دولة أوروبية، وتم خلالها التأكيد على مكانة فرنسا كشريك استراتيجي أساسي تربطه ببلادنا علاقات قوية ومتينة اقتصادية وسياسية وغيرها.
وخلال العام الماضي استقبلت تونس وزراء خارجية كل من إيطاليا واسبانيا وكان محور ملف الهجرة غير النظامية وكيفية مواجهتها أهم اهداف هذه الزيارات، وأعطت انطباعا بان تونس تحت ضغط أوروبي من أجل مراقبة حدودها البحرية وإيقاف مراكب الهجرة . في هذا السياق كان رد رئيس الجمهورية واضحا من خلال الدعوة الى تبني رؤية جديدة لمكافحة ظاهرة الهجرة غير الشرعية تقوم بالأساس على «التنمية المتضامنة»، فلا يمكن لأي دولة بمفردها ان تحل إحدى أهم المعضلات التي تؤرق العالم وهو ملف الهجرة غير النظامية بحل أمني فقط بل يتطلب ذلك أيضا حلا اقتصاديا يضمن الاستقرار لدول المنطقة والتخفيف من موجات النزوح المتصاعدة .
ولا يخفى ان وباء كورونا ألقى بثقله على العمل الدبلوماسي في تونس سواء على مستوى عمل وزارة الخارجية او رئاسة الجمهورية ، فقد تأجلت عديد المواعيد الدبلوماسية الهامة ومنها الزيارة التي كانت مبرمجة لإيطاليا خلال هذا الشهر وقد تقرر تأجيلها اثر مكالمة هاتفية جمعت الرئيس قيس سعيّد مع الرئيس الإيطالي سارجيو ماتاريلا، اذ تمّ الاتفاق بين الرئيسين على أنه من الأفضل تأجيل الزيارة إلى مطلع السنة القادمة نظرا للأوضاع الصحية السائدة في البلدين.

إضافة الى ذلك فان عديد اللقاءات الدبلوماسية الهامة الأخرى قد تمّت في اطار اللقاءات عن بعد او الاتصالات الهاتفية -وهي على أهميتها- ولكنها لا تعوض الدبلوماسية المباشرة بكل ما فيها من زخم وتأثير . فجاءت هذه الجائحة لتزيد من صعوبة التحديات التي يواجهها الرئيس قيس سعيد في أول عام له في عهدته الرئاسية إضافة الى مناخ الأزمات والحروب المتنقلة والمتصاعدة في المنطقة ككل وفي العالم العربي والتي تجعل العمل الدبلوماسي أكثر صعوبة . فالحفاظ على ركائز وثوابت الدبلوماسية التونسية القائمة على إقامة علاقات طيبة وحسن الجوار مع الجميع وعدم الانخراط في لعبة المحاولات الإقليمية والدولية الدائرة اليوم في المنطقة- من أهم الصعوبات التي واجهت ولا تزال الدبلوماسية التونسية ورئيس الجمهورية. وهذا ما دفع الرئاسة لان تكون أكثر حذرا في كل بياناتها ومواقفها الصادرة وخاصة خلال الشهور الأولى من تولي قيس سعيد زمام الحكم . وقد وجه البعض انتقادات كبيرة لهذا التمشي باعتبار ان الأحداث الصاخبة التي تمرّ بها المنطقة تتطلب دبلوماسية أكثر وضوحا وحزما وان تسرب الغموض والالتباس في بعض المواقف من القضايا الهامة قد لا يعطي الانطباع الجيد الذي تحتاجه الدبلوماسية التونسية لمواصلة مسيرتها في خضم العواصف العاتية التي تواجه تونس والمنطقة.
واليوم تبدو أمام الرئيس قيس سعيد صعوبات وتحديات ليست بالسهلة ومواعيد هامة مستقبلية لعل أهمها الاستعدادات لاحتضان الدورة 18 لقمة الفرنكوفونية خلال نوفمبر من العام القادم، وكذلك احتضان بلادنا للدورة الثامنة لندوة طوكيو للتنمية في إفريقيا TICAD 8 سنة 2022، وهي مواعيد هامة ستكون بمثابة امتحان صعب لبلادنا لمزيد تدعيم دور تونس إقليميا ودوليا .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115