تحليل إخباري: دقّ الاسفين قبل الأخير في نعش «التوريث الديمقراطي»: الباجي قائد السبسي لن يترشح لولاية رئاسية ثانية

تتداول أوساط مطلعة منذ أشهر خبرا مفاده أن رئيس الدولة الباجي قائد السبسي لن يترشح

لولاية رئاسية ثانية وانه قد يكون اسر بذلك إلى بعض زواره دون أن يتأكد الخبر بصفة قطعية ..

ولكن ما صرحت به يوم أول أمس النائبة لمياء المليح على أمواج «جوهرة ف.م» غيّر المعطيات ، إذ أكدت النائبة الندائية أن رئيس الدولة قد أكد لهم في اللقاء الذي جمعه ببعض النواب عن كتلة نداء تونس بأن لا نية له في الترشح لولاية رئاسية ثانية ..
هذا الخبر الذي يبدو عاديا في ظاهره للكثيرين يغير معادلات جوهرية في السياسة التونسية اليوم وغدا..
لقد سبق للباجي قائد السبسي أن قال أثناء الحملة الانتخابية سنة 2014 انه ينوي الاكتفاء بعهدة رئاسية واحدة ، ولا نخال أن رئيس الدولة قد كان راغبا ، بعد انتخابه ، في التراجع عن هذا العهد الذي قطعه على نفسه إذ يدرك الرجل جيدا أن عامل السن كاف لوحده لكي لا يجعله يفكر في عرض نفسه ثانية على التونسيين وسنه تناهز الثلاث وتسعين سنة .

إذا ما الذي يجعل من هذا التأكيد المتجدد لرئيس الدولة حدثا في حد ذاته ؟
ما حدث منذ بداية 2015 هو الذي غير المعطيات فمسار «التوريث الديمقراطي» الذي بدأت تظهر بواكيره الأولى منذ سنة 2014 حين أراد نجل رئيس الدولة رئاسة قائمة حزبه في تونس الأولى في الانتخابات التشريعية ثم ازدادت حدة هذا المسار اثر نجاح النجل في 2015 في الإطاحة بكل خصومه فردا فردا مستفيدا من طمع البعض وسذاجة البعض الآخر والحسابات المعقدة والشخصية لأهم منافسيه وابتعاد البقية عن بوتقة هذه الصراعات ..ثم احكم قائد السبسي الابن قبضته على النداء في ما سمي بمؤتمر سوسة في جانفي 2016 حيث أصبح المدير التنفيذي و«الممثل القانوني» للنداء أي صاحب الباتيندة الجديد وواصل مسار الإبعاد وأحاط نفسه بمنتدبين جدد وقدامى ولاؤهم الوحيد لشخصه ، ظنا منهم أن هذا الولاء هو الطريق الأيسر والأقصر لنيل المكاسب المادية والمعنوية ..
ماذا بعد التحكم في الحزب ؟ التحكم في الدولة طبعا عبر التعيينات واختراق مختلف أجهزتها بوضع الموالين وعندما يعترض على ذلك ، ولو جزئيا ، رئيس الحكومة تصبح المطالبة بإقالته هي عين الحكمة .. ولقد حصل ذلك مع الحبيب الصيد وهو نفس الأمر الحاصل اليوم مع يوسف الشاهد ..
ولكن السيطرة على أجهزة الدولة ليست غاية في حد ذاتها فكما يقول المثل الفرنسي «الشهية تأتي مع الأكل» وأصبح حافظ قائد السبسي يمني النفس بوراثة حكم والده عبر آليات الديمقراطية بالطبع ولكن بعد التأكد بأن «انتخابه» سيكون الحل الوحيد المتاح لجل التونسيين ..
نحن الآن في نهايات سنة 2016.. وانتخابات 2019 بدات تقترب على عجل ومسار «التوريث الديمقراطي» لم يترسخ بعد وهنالك شكوك كبيرة (هذا اقل ما يقال) في إمكانية ترشح حافظ قائد السبسي للدور الثاني للرئاسية حتى لو كان المرشح الوحيد لنداء تونس والتوريث بطبعه لا يحتمل المنافسة أو المناولة .. فحافظ قائد السبسي ليس «بوتين» ولا ثقة له في أي «ميدفيديف» ممكن ..

ولكن الوقت ليس كافيا لإعداد النجل لخلافة أبيه ديمقراطيا .. وهنا تفتقت قريحة «الأدمغة المفكرة» من المنتدبين الجدد والقدامى على خطة جهنمية : مناشدة الباجي قائد السبسي للترشح لولاية ثانية وهكذا يصبح لفريق البحيرة (المقر المركزي لنداء تونس) متسع من الوقت لإعداد «البديل» فتنتقل تونس «ديمقراطيا» سنة 2024 من قائد السبسي إلى آخر .. فالأمريكان ليسوا أفضل منا فلقد انتخبوا بوش الأب ثم انتخبوا بوش الابن .. وما بين الابنين اكثر من وشيجة وصلة ..

وعلى رأي المثل «كلمة في الصباح وكلمة في العشية» بدأت الفكرة تحلو شيئا ما لرئيس الدولة خاصة وان كل المدافعين عنها يقدمونها باعتبارها تضحية في سبيل الوطن وان البلاد ستضيع لو يتركها الباجي قائد السبسي ..
«الباجي 2019» أصبح شعار المرحلة وبدا التلويح بضرورة مساندة هذا الخيار باعتباره المنقذ الوحيد لـ«حداثة» تونس وبعض الساسة يجيبون عن سؤال يهمسون به هم أنفسهم : بالطبع سنساند ترشح رئيس الدولة لولاية رئاسية ثانية .. بل وهذا ما أكده رئيس الحكومة الحالي نفسه في نهايات 2017.. ورغم ذلك لم تشفع له هذه «الإجابة الطيبة» اليوم ..

لكن الأيام والأسابيع والأشهر قد فعلت فعلها .. فالباجي قائد السبسي اليوم ورغم محافظته على فطنته ودهائه وسرعة بديهته إلا انه لم يعد في الوضعية النفسية والعصبية لسنة 2014 ووضع البلاد لم يتحسن بالدرجة التي تبرر التقدم من جديد أمام التونسيين علاوة على تخوفات أصدقاء البلاد ودائنيها من مثل هذا السيناريو الذي قد يكون عنصرا من الأزمة لا من الحل..

ويمكن أن نتهم الباجي قائد السبسي بما نريد ولكن للرجل من رجاحة العقل ما يجعله قادرا على تجنب مثل هذه المطبات رغم انه قد هم بها وهمّت به ..
فمنذ نهايات 2017 وبدايات 2018 حزم رئيس الدولة - على الأرجح- أمره وقرر ألا يترشح لولاية ثانية ولكنه كان يقول لبعض زواره بأنه لا يمكنه الإفصاح عن ذلك وإلا فقد كل إمكانية للتأثير على الوضع السياسي للبلاد وافلتت من يديه كل خيوط اللعبة ..
نذكر جيدا كيف قال رئيس الدولة في خطابه بمناسبة عيد الاستقلال في 20 مارس 2018 بأنه «يعرف وقتاش يخرج» وكانت إشارة واضحة إلى حد ما على نية رئيس الدولة الاكتفاء بعهدة انتخابية واحدة .

وهنا ضرب مسار «التوريث الديمقراطي» في مقتل خاصة وانه اجتمع ضده عاملان أساسيان : هشاشة التحالف مع النهضة بل غيابه على المستوى القاعدي كما اتضح ذلك في الانتخابات الجزئية في ألمانيا 2017 وعدم الاستعداد الجيد لسنة 2019..
فالفكرة كانت آنذاك إعادة انتخاب الباجي قائد السبسي في 2019 وحسن الاستعداد لـ2024 في إطار التوافق مع النهضة وترشح حافظ قائد السبسي لرئاسية 2024 مسنودا بما بقي من النداء وخاصة من حركة النهضة بما يؤهله بصفة آلية إلى الدور الثاني وحينها تكون حظوظه وافرة لخلافة أبيه على

كرسي قرطاج لهذا اعتبر الملتفون حول صاحب الباتيندة أن ما حصل في ألمانيا هو «خيانة» إذ رغم دعم قيادة النهضة لمرشح النداء فهذا الأخير لم يتمكن حتى من الإحراز على 300 صوت !! وما حصل في ألمانيا قد يحصل في رئاسيات 2024 و يندثر الحلم منذ الدور الأول ..

هنا تفتقت «الأدمغة المفكرة» لمسار «التوريث الديمقراطي» عن فكرة جهنمية ثانية وهي تأجيل انتخابات 2019 بسنتين بالاعتماد على تأويل غريب للفصل 80 من الدستور الذي يتحدث عن «خطر داهم مهدد لكيان الوطن» يبرر اتخاذ إجراءات استثنائية وللفصل 57 الذي ينص على التالي: «إذا تعذر إجراء انتخابات بسبب خطر داهم فان مدة المجلس تمدد بقانون» وهكذا ما استحال كله (فترة حكم ثانية بخمس سنوات) قد نتحصل على بعضه (تمديد بسنتين أو ثلاث) حتى تستكمل الخطة ويحكم إعدادها ..

ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن فتأكد بعض نواب نداء تونس من عدم ترشح رئيس الدولة دفعهم إلى تغيير تموقعاتهم وولاءاتهم واضعف كثيرا «التوريث الديمقراطي» من الان اذ تشير كل الدلائل بأن حافظ قائد السبسي بصدد خسارة سيطرته على الكتلة النيابية اي على الأداة التشريعية القادرة على الضمان الأدنى لمسار «التوريث» وكما فشلت الخطة الأولى (الترشح لولاية ثانية ) فستفشل الخطة الثانية (التمديد بالاعتماد على الخطر الداهم) وكما قال القدامى : الحيلة في ترك الحيل ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115