في التشديد على أنه يجب إعادة كتابة التاريخ لإدراج ما تكشفه هيئتها من معطيات أهمها «الاتفاقيات» مع فرنسا لاستغلال الثروات الطبيعية.. دعوة بن سدرين كانت تقترن بشهادة المؤرخين وهو ما دفع بمجموعة منهم إلى الردّ عليها وتنشر «المغرب» مضمونه التالي:
تصرّ رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، منذ تسلّم مهامها، على التجنّي على التاريخ بعامّة والسردية الوطنية بخاصّة. وفضلا عن هذا فان السيدة بن سدرين لا تتردّد منذ توليها أمر الهيئة - إن تصريحا أو تلميحا - في الطعن في مصداقية المؤرخين التونسيين وتبخيس إنتاجهم في جهل شبه تام بالاستغرافيا التونسية المعاصر منها والراهن.
ولقد انتهزت رئيسة الهيئة أخيرا فرصة ظفرها بوثائق «خطيرة» (كذا) حصلت عليها بـ«طرق ملتوية» ( كما قالت) معتبرة إياها لقية ثمينة جدّا لتواصل ما دأبت عليه من تقديم النصح بضرورة إعادة كتابة التاريخ في ضوء «كشوفاتها المدوّية» المتمثلة في شهادات شفوية لضحايا الاستبداد، وفي الوثائق التي حصلت عليها أخيرا، مقدمة إياها على أنها تاريخ حقيقي غير مزيّف.
لسنا نريد في هذا المقام الدخول في سجال مع السيدة بن سدرين، ولكنّنا نرى من الواجب إحاطة الرأي العام الوطني علما بجملة من الملاحظات نعتبرها مهمة، خاصّة وأنّ المشهد العام في البلاد اليوم يموج بالانفعالات والدعايات وتصفية الحسابات السياسية في أفق الاستحقاقات الانتخابية القادمة، علّنا نساهم من موقعنا هذا، بكل تواضع وتجرّد، في نقل الغامض من بعض القضايا الحساسة إلى مدار الوضوح. وتفصيل البعض من هذا كالآتي :
• أولا: لقد استفزت رئيسة الهيئة والبعض من أعضادها المؤرخين غير مرّة، بوعي أحيانا وبغير وعي حينا، بشكل غير مباشر حينا وبشكل مباشر في غالب الأحيان.
وكانت «غزوة» أرشيف رئاسة الجمهورية في 26 ديسمبر 2014، تلك الحادثة التي أساءت لصورة تونس في العالم بعد أن تناقلتها وسائل الإعلام والاتصال وذلك المشهد الشائن لرتل من شاحنات نقل الأثاث أمام القصر الرئاسي، أول هذه الاستفزازات. ثم جاء طلب رئيسة الهيئة من المؤرخين، في لهجة آمرة، إعادة كتابة التاريخ خلال جلسة الاستماع العلنية التاسعة بتاريخ 24 مارس 2017، ليثير استهجانهم - وهو أمر لم يتجرأ أحد على اصداره إلى المؤرخين حتى في أحلك فترات الاستبداد -. وقد تكفّل عدد كبير من المؤرخين بالرد على تلك «الدعوة» واضعين النبرة على أن إعادة كتابة التاريخ هي من صميم شغلهم وأنهم لا يفعلون غير هذا. (المغرب، 10 أفريل 2017).
و في 26 مارس 2017 تفاجأ المؤرخون بتصريح غريب لأحد أعضاء الهيئة مفاده أن المؤرخين التونسيين: «لا يعرفون تاريخ الزمن الراهن ..» (كذا). جرى كل هذا يدا بيد مع ما كانت تشيعه السيدة بن سدرين في أحاديثها حول تاريخ تونس المعاصر من إيحاءات وترّهات من قبيل « تصحيح التاريخ..»أو «اطلاع التونسيين على التاريخ الحقيقي لا التاريخ السابق المزوّر ..»الخ . هذا دون الحديث عن تقصير المؤرخين وانعدام الشجاعة والموضوعية لديهم بحيث لم يبق إلا الطعن في طويّتهم ووطنيّتهم .
وفي شهر جانفي 2018 طلعت علينا السيدة بن سدرين بخطوة جديدة تنمّ عن استخفاف متعمد بالمصلحة الوطنية إذ أصدرت طلب عروض بهدف تخزين - ولمدة غير محددة - ما جمعته من أرشيف سمعي وبصري لشكاوى ضحايا القمع والتسلط وشهاداتهم المقدمة إلى الهيئة في منصات تابعة للشركة الأمريكية العملاقة مايكروسوفت متجاهلة المؤسسات التونسية المختصة في مثل هذه الأعمال والتي لا تنقصها لا الخبرة ولا الكفاءات البشرية. وهو ما يدعو إلى التساؤل حول النوايا الحقيقية لرئيسة الهيئة ومدى التزامها بالقانون وبالضوابط الوطنية وبواجب حماية المعطيات الشخصية.
ثم جاء «الكشف الوثائقي» الأخير مباشرة قبل احتفال التونسيين بالذكرى 62 للحصول على الاستقلال ليثبت مرّة أخرى أن رئيسة الهيئة تمضي في النهج الذي رسمته لنفسها غير عابئة بلوم أو مؤاخذة .
• ثانيا : تبدو رئيسة الهيئة مسكونة بهاجس الرياديّة في مضمار ما يمكن أن نسمّيه «كشف الستار عن الحقائق المخفيّة». وقد تجلّى هذا خلال جلسة الاستماع العلنية آنفة الذكر حين ألحّت على سبق «هيئتها» في جمع روايات ضحايا الاستبداد وفي المدّة الأخيرة عندما شدّدت على فرادة الوثائق التي حصلت عليها والجهر بأنه لم يسبقها إليها انس ولا جان.
ويهمّنا أن نوضح هنا مرّة أخرى أن الهيئة لم تفتح أبوابا كانت مغلقة في مجال المصادر ولا هي ارتادت آفاقا جديدة في مجال الشهادات الشفوية وهذا ما وضّحه المؤرخون في ردّهم على رئيسة الهيئة بتاريخ 10 أفريل 2017 بتفاصيل وافية. أما الوثائق المكتوبة التي ادعت رئيسة الهيئة أنها بكر فهي في الحقيقة معروفة. وكان بوسع أي كان الاطلاع عليها وقد نشر أغلبها. كما اعتمدها بعض الباحثين في بحوثهم. بل إن البعض منها مطبوع ومنشور بالرائد الرسمي ما ينفي عن «كشوفات» الهيئة طابع الجدّة والإضافة والانفرادية المزعومة. وهذه مسألة يضيق بها مثل هذا المقام .
• ثالثا: لقد تضمّنت الوثائق التي نشرتها الهيئة معطيات معروفة ومتداولة، لا شك في هذا ولا جدال، ولكنها في الواقع معطيات جزئية ومبتورة من حيث أن عرضها كان انتقائيا غير كامل. فالوثائق المقدّمة، على الرغم من ظاهر صحّتها وصدقها لا تعطي فكرة دقيقة وافية للحقيقة كما هي أو كما كانت، ذلك أن السيدة بن سدرين زاولت الاجتزاء على الحقيقة من حيث أنها لم تقدم سوى جزء منها في حين تم التعامي -عن قصد- عن الأجزاء المتمّمة للحقيقة الكاملة وهذا ما يسمى بالفرنسية: le mensonge par omission.
إن تقديم أنصاف الحقائق أو عرض بيانات ناقصة على أنها حقائق كاملة هو كناية عن مغالطة و«حقائق كاذبة» وهو تعمّد للتلاعب بالوثائق التاريخية. هكذا تم التقاط الشوارد واجتزاء المعطيات وتطويع المعلومات وتوجيهها وجهة خاصّة على نحو معيّن كي تبدو «الحقيقة الكاذبة» منطقيّة ومقبولة ومن ثمّ يقع توظيفها في تعزيز أطروحة أو رؤية أو وجهة نظر غالبا ما يرفدها موقف سياسي معيّن. وخلاصة القول: إن أنصاف الحقائق أكثر غشّا وأكثر ضلالا من الأكاذيب نفسها، وهي كما هو معلوم من الأساليب الأثيرة عند المتلاعبين بالعقول. خاصّة وأنّه تبيّن من خلال الاطّلاع على الوثائق المنشورة أنّ هيئة الحقيقة والكرامة تجهل كيفية قراءة الوثائق وهو أمر بديهي وهذا العجز عن الفهم أدّى بها إلى الوقوع في المحظور العلمي وهو تحميل الوثيقة التاريخية ما لا يمكن تحمّله و«الافتراء» عليها، وهذا الأمر قد حصل فعلا.
• رابعا: لا يتّسع المجال في إطار هذا الحيّز المحدّد الهدف للخوض في ما جاء في اتفاقيات 1955 من بنود «مخلّة بالسيادة « كما ذكرت رئيسة الهيئة، ولكن لا بدّ من التأكيد على أن الدولة الوطنية قد تجاوزت أغلب ما جاء في هذه الاتفاقيات وملحقاتها قانونيا وديبلوماسيا بحكم الأمر الواقع (de facto )، ونجحت بإصرار في استعادة معالم السيادة الوطنية (الجلاء العسكري والزراعي). وهذا ما يؤكده العارفون بخفايا الأمور من رجال القانون والعلاقات الدولية ونحوهم وكذا البعض ممّن مارسوا السلطة بعد الثورة . وحسبنا هنا ما صرّح به مسؤول سابق في حكومة الترويكا في ألفاظ صريحة فصيحة لا يشوبها التواء - وهو ممن يصعب اتهامه بالانتماء إلى المنظومة القديمة - في ردّ غير مباشر على رئيسة الهيئة يوم الأربعاء 7 مارس 2018: «إن الحديث عن استغلال إكراهي لثروات البلاد من طرف بعض الدول لا أساس له من الصحّة وان كلّ المعلومات حول ثروات البلاد موجودة ومتاحة في المواقع الالكترونية للوزارات المعنية. إن تونس دولة استقلّت بشكل كامل سنة 1956 ولها السيادة الكاملة على الأرض وباطنها..». وهل بعد هذا مقال لقائل ؟
• خامسا : لسنا في حاجة إلى كبير عناء كي نتبيّن أن للسيّدة سهام بن سدرين (ومن ساندها ويساندها بلجّة وضجّة) جردة حساب مع الزعيم الحبيب بورقيبة وبناة دولة الاستقلال والدولة الوطنية عموما. كما لم يغب عن فطنة الناس أن خطابها مصبوغ بالكراهية والحقد الدفين والرغبة في الانتقام والتشفّي. وليس بمثل هكذا خطاب يمكن التأسيس لعدالة انتقالية سليمة. عدالة تتيح طي صفحة آلام الماضي كمقدمة لتدشين عهد من الوئام الوطني. فالواضح أن شروخ الماضي لن تكف عن النزيف، ما دام توظيفها سياسيا وبمنطق الغنيمة هو الشاغل الحقيقي للعديد من الأطراف.
وفي الختام لا يسعنا إلا التأكيد على أن المؤرخين التونسيين (الذين هم من خيرة المؤرخين العرب يشهد بهذا القاصي والداني) سيواصلون عملهم وفقا لما يمليه عليهم ضميرهم غير عابئين بتلك الدعاوى المجانية لا شيء يلهيهم عن البحث عن الحقيقة الموضوعية حتى وإن بدت عزيزة المنال أحيانا. وهم في سعيهم هذا مصمّمون على الدفاع عن قواعد المهنة وقدسيتها لا يستهويهم وعد ولا يرهبهم وعيد.
20 مارس 2018
• الأساتذة الممضون
فتحي ليسير، لطفي عيسى، جمال بن طاهر، حياة عمامو، الهادي التيمومي، مصطفى التليلي، الهادي جلاب، لطيفة لخضر، عبدالكريم العلاقي، علي نورالدين، عبدالواحد المكني، عبداللطيف الحناشي، خليفة شاطر، بشير اليزيدي، محمد المريمي، نورالدين الدقي، منيرة شابوتو الرمادي، حسن العنابي، أحمد مشارك، عبد الحميد هنية، رياض بن خليفة، ليليا الخليفي، سامية الزغل اليزيدي، فتحي العابد، محمد الجربي، فتحي العايدي، عبدالحميد فنينة، حسين الجعيدي، صالح بعيزيق، محيي الدين الحضري، رضا بن رجب، هند قيراط، كريم بن يدر، خالد عبيد، محمد الناصر الصديقي، سلوى الهويدي، بثينة المرعوي التليميني، كمال جرفال، محمد سعيد، محمد عبدالحميد سعيد، عادل بن يوسف، عبدالحميد الهلالي، سعيد بحيرة، فيصل الشريف، سهام الكشو عبد مولاه، فوزي السعداوي، عبد المجيد بلهادي، علي الطيب، منصف باني، علي آيت ميهوب، مروان العجيلي، الطيب النفاتي، محمود التايب، عبد الجليل بوقرة، سميرة السهيلي، الحبيب العزيزي، رضا السهيلي، عادل اللطيفي، علي لطيف، خالد الجويني، فاطمة بن سليمان، ثريا بلكاهية، رضا كعبية، سفيان بن موسى، الحبيب الجموسي.