قهوة الأحد: حكاية الكتاب الذي فشل في تغيير العالـم

قلة هي الكتب التي كان لها هذا التأثير الكبير على المستوى العالمي وبلغت هذه المستويات من التوزيع والاهتمام. نجد في طليعة هذه الكتب بطبيعة الحال الكتب السماوية كالقرآن والإنجيل والتي تشكّل لليوم مرجعا هاما ونبراسا لمؤمني الديانات السماوية. ولم يبلغ هذا المستوى

من التأثير إلا كتاب وضعي واحد وهو الكتاب الأحمر لمقولات الرئيس الصيني وزعيم الحزب الشيوعي الصيني.

وقلة قليلة من الناس تتذكر اليوم هذا الكتاب وبل قل إن الكثير يجهلون حتى وجوده وبصفة خاصة شباب اليوم وإن لفّ هذا الكتاب الكثير من النسيان اليوم فقد كان الكتاب الأكثر تأثيرا في صفوف الشباب الثائر في ستينات القرن الماضي وحتى منتصف السبعينات ونهاية الحقبة الماوية في الصين ونهاية تأثيرها على المستوى العالمي.

فقد كان هذا الكتاب الصغير الحجم كالحلة يوشح صدور ثوريي ذلك الزمن ويرجعون إليه في كل حديث أو نقاش ويأخذون منه الكثير ويقدمون ما ورد فيه من مقالات وآراء على أنها أفكار لا يمكن الابتعاد عنها وتبا للذي ينحرف عن أفكار الرفيق ماو أو يحيد عنها ولو قليلا فستسقط عليه اللعنة وينبذه الرفاق ويقاطعونه ليبقى وحيدا يبكي حظه العاثر ويحلف بكل الأيمان غير السماوية طبعا أنه لن يعيد الكرة في عمليات نقد ذاتي مفتوحة لكل الرفاق يستعيد فيها الباقي من الأنفة والكرامة التي بقيت معه.

إذن شكّل الكتاب الأحمر لآراء وأفكار ماو تسي تونع منهاج الثورة القادمة والطريق الذي يجب إتباعه وعدم الحياد عنه ولو قيد أنملة لتغيير العالم وبناء الاشتراكية على المستوى العالمي والإنسان الجديد الذي نبحث عنه وسيكون لملايين الشباب الثوري في العالم النبراس الذي سيفتح لهم الطريق الوردي للثورة والتغيير وإنهاء علاقات الاستبداد والظلم.

أعود في هذه المقالة للحديث عن هذا الكتاب بمناسبة خمسينية صدوره أو بالأحرى توزيعه على أعلى مستوى مع انطلاق الثورة الثقافية في الصين بعد أن عرف الرئيس الصيني بعض النقد وتراجعا كبيرا في سلطته إثر فشل سياسة الخطوة إلى الأمام في نهاية الخمسينات.
ويرجع إصدار الكتاب الأحمر الصغير أو «le petit livre rouge» كما كان يسمى في تلك الأيام إلى شهر ماي 1964. وقد تم إعداد هذا الكتاب وطبعه بإيعاز من لينبياو (lin biao) والذي كان يشغل وقتها خطة وزير الدفاع وقائد جيش التحرير وكان هذا الكتاب الذي طبع 60 ألف نسخة في طبعته الأولى موجها لجنود جيش التحرير ويهدف إلى تثقيفهم وتمكينهم من الاطلاع على أهم أفكار وآراء الرئيس ماوتسي تونغ.

وقد قام لين بياو وفريق العمل الذي اشتغل معه بالعودة إلى خطابات ماو وتصاريحه للصحفية ولقاءاته وأحاديثه واختاروا منها عديد المقتطفات ووقع تبويبها في 30 فصل كالحزب والنظرية الماركسية وغيرها من المواضيع الإيديولوجية المرتبطة بقراءة الرئيس الصيني للفكر الماركسي وسيقوم لين بياو بتوزيع الكتاب على جنود الجيش الصيني والفلاحين في أغلبهم من أصول فلاحية ولا يحسنون القراءة ولا الكتابة وكان هدف لين بياو من وراء هذه العملية وإلى جانب استمالة الرئيس ماو ودعمه له المساهمة في تثقيف آلاف الجنود وتنمية وعيهم.

إلا أن التحول الكبير الذي سيعرفه هذا الكتاب سيكون مع انطلاق الثورة الثقافية سنة 1966 إلى حد أن الكثير يعتبر أن الانطلاقة الحقيقية للكتاب الأحمر تعود إلى هذه السنة وليس إلى سنة أول طبعة في 1964. فهذا الكتاب سيكون أحد الأدوات الأساسية للثورة الثقافية وسيرتبط مصيره بمصيرها ولفهم أسباب هذه الثورة لا بد من العودة إلى نهاية الخمسينات وتطبيق ما سمي ببرنامج القفزة إلى الأمام للرئيس ماوتسي تونغ بين سنة 1958 و1960 والذي كان يهدف إلى جعل الصين بلدا متقدما وإلحاقها بالبلدان الكبرى إلا أن هذا البرنامج فشل فشلا ذريعا وكان وراء إحدى أهم الأزمات الاقتصادية الكبرى في الصين والتي نتج عنها مجاعة كبيرة وموت الملايين من الفلاحين الفقراء.

وكان لهذه الأزمة السياسية والاقتصادية انعكاس كبير على نجم الرئيس وهيبته فتراجع موقعه وتأثيره في الحزب قرر إثره ماو الانسحاب من مركزه كرئيس جمهورية.

وقد قبل الحزب هذا القرار وتم تعيين ليوشاوكي لرئاسة البلاد ومن الناحية السياسية كان لهذا الفعل وانسحاب ماو من الرئاسة انعكاس كبير على موازين القوى داخل الحزب نتج عنه تراجع الشق الثوري الراديكالي وصعود شق معتدل وإصلاحي بقيادة دينغ كسياوبنغ.
إلا أن ماو لن يقبل بهذا التهميش ولن يرضخ لصعود الشق المعتدل في الحزب. فسيبدأ الشق الراديكالي في تنظيم صفوفه وتوجيه نقد شديد اللهجة لما اعتبروه انحرافا عن الخط الثوري للحزب وصعودا للقوى الانتهازية والمعادية للثورة. وسيقوم ماو مع هذه المجموعات بتكوين الحرس الأحمر الثوري والذي سيبدأ حملة شعواء وحربا ضروسا على قيادات الحزب ستنتهي بسيطرتهم على هياكل الحزب وإعلان انطلاق الثورة الثقافية. وستكون هذه الثورة كما أراد ماوتسي تونع ثورة الشباب على القيادات البالية والقديمة للحزب وعلى الأفكار القديمة والمثقفين والثقافة البالية. ولن تكتفي هذه الثورة على الحزب بل ستشمل كذلك الجيش لتضع البلاد في حالة ثورة دائمة وهيجان وغليان شعبي هام على الحزب.

ستكون الثورة الثقافية فترة عصيبة على المجتمع الصيني فسيقع قمع النخبة من مثقفين وقادة سياسيين وحتى الطلاب تم التنكيل بهم وإهانتهم في الساحات العمومية أمام الآلاف من الناس فيما سمي بحصص النقد الذاتي كما تم بعث الملايين من سكان المدن إلى الأرياف بحجة إعادة تثقيفهم وقد قضى العديد منهم نحبه من الجوع والعطش والإرهاق.

ولم ينج من هذه الحملة على المثقفين حتى لين بياو الذي كان وراء الكتاب الأحمر والذي لم يشفع له حتى غلوه في الدفاع عن ماو. فقد تم إيقافه في 1971 بتهمة تزعمه لجناح يميني في صلب الحزب ومحاولته اغتيال ماو وقد قضى نحبه في السجن.
كما عملت الثورة الثقافية على إقصاء كل نفس نقدي في الحزب الشيوعي الصيني وبسط النفوذ النهائي وزعامة الرئيس ماو على الحزب كما كانت وراء صعود عبادة الشخصية لماو وإقصاء وتصفية كل معارضيه.

كما كانت الثورة الثقافية فشلا ذريعا من الناحية الاقتصادية فتوالت الأزمات الفلاحية والاقتصادية الأخرى مما نتج عنه تراجع هام للإنتاج الزراعي والصناعي وكانت المجاعة وراء موت ملايين الفلاحين الفقراء في الأرياف.

وسنجد في هذا الكتاب بعض الأفكار المعروفة والتي تناقلتها الصحف والتحاليل للرئيس الصيني ماوتسي تونغ فنجد مثلا ما قاله عن «أن الرجعيين هم نمور من ورق» في الظاهر هم أقوياء ولكن في الحقيقة ليسوا أقوياء». كما نجد كذلك هذه الفكرة المعروفة عن الثورة وهي «إن الثورة ليست عشاء استعراضيا بل هي انتفاضة عنيفة تغلب بموجبها طبقة اجتماعية طبقة أخرى» ونجد كذلك هذه الجملة الأخرى حول السياسة حيث يقول «السياسة هي حرب بدون إسالة دماء أما الحرب فهي سياسة بإسالة دماء».
وبالرغم من فشل الثورة الثقافية فإنها لن تتوقف إلا بموت ماو وإيقاف عصابة الأربعة ومن ضمنهم الإمبراطورية الحمراء أو زوجة ماو. وسقوط الجناح الثوري سيقابله صعود الجناح المعتدل والإصلاحي والذي يقوده دينع كسياوبنغ والذي سيجعل من الصين القوة الاقتصادية العظمى التي نعرفها لليوم.

ومع نهاية الثورة الثقافية ستنتهي أسطورة هذا الكتاب الصغير والذي فشل في تغيير العالم وسيعمل دينغ كسياو بنغ عند وصوله إلى السلطة على الابتعاد عن التحاليل الموغلة في الإيديولوجيا للرئيس ماو فسيقع إيقاف توزيعه بقرار من الحكومة الصينية سنة 1979 وسيقع إتلاف 100 مليون النسخة الباقية وأصبح الكتاب الأحمر اليوم ذكرى بعيدة ويحاول الصينيون نسيان آثارها وانعكاساتها ولا نجد هذا الكتاب اليوم إلا في المغازات التي تبيع الهدايا للسياح الأجانب يشتريه البعض كشاهد على حقبة ولت وانقرضت.

وفي رأيي فإن قراءة وتحليل هذه الفترة العصيبة في تاريخ الصين وفي تاريخ العالم تطرح علينا على الأقل ثلاث مسائل كبرى ذات الأهمية. المسألة الأولى هي فكرية وفلسفية وتخص هيمنة وسيطرة الغلو الإيدلويوجي والفكري بغض النظر عن علاقته بالواقع ومدى صحة تحاليله فكان الهدف هو تطويع الواقع للفكر وكانت نتائج هذا التمشي وخيمة وقادت إلى ضبط سياسات واختيارات بعيدة كل البعد عن احتياجات الواقع وأدت إلى جرائم وانتهاكات باسم الصفاء الإيديولوجي.

المسالة الثانية تخص العمل السياسي وطرق التعاطي مع الفرقاء السياسيين وقد عرفت هذه المرحلة تصورا رهيبا في العمل مع المنافسين والمختلفين والمعارضين وهي التصفية الجسدية فوقع بعث الملايين من الناس إلى معسكرات الاعتقال التي لم يعد منها الكثير لا لشيء إلا لأنهم يختلفون مع رؤية الحزب السائد أو الزعيم الأوحد. إذن في فترة هيمنة النقاوة الثورية كانت النظرة السائدة للعمل السياسي ترفض الاختلاف وتعارض الآراء وتعتبرهما جريمة مآلها لا فقط السجن بل كذلك التصفية الجسدية. وكان هذا التصور وراء الكثير من المآسي والآلام في تاريخ الكثير من الشعوب.

المسألة الثالثة تخص تهميش الاقتصاد وتغليب الإيديولوجيا والسياسة وكان لهذا التوجه انعكاسات وخيمة وسلبية وفقد الاقتصاد أهميته عند هؤلاء المسؤولين أرادوا نسيانه من خلال أزمات كبرى ومجاعات.

إن هذه الفترة والتي امتدت من الستينات وسبعينات القرن والتي لم تقتصر على الثورة الثقافية في الصين بل امتدت إلى عديد البلدان الأخرى تميزت بهيمنة ثقافة الانغلاق السياسي والغلو السياسي فكان رفض الاختلاف وتخويف المعارضين وهيمنة الاستبداد الفكري والسياسي وهذا منطق المجتمعات المتخلفة (sociétés fermées) كما أشار له العديد من الباحثين والأساتذة. إلا أن ثورات الشباب في نهاية الستينات وبداية السبعينات ستهزم هذه الثقافة الاستبدادية وتدق أسسها وتبني ثقافة جديدة تحترم التعدد والاختلاف وتجعل من السياسة في بناء الممكن وبناء التحالفات بين الفرقاء. وأصبحت ما يمكن أن نسميه ثقافة المجتمعات المنفتحة (sociétés ouvertes) على الآخر وعلى العالم وعلى الثقافات الأخرى هي السائدة اليوم.

فأخذت الاتجاهات الفكرية التي تحاول فهم الواقع مكان الغلو الإيديولوجي كما أصبحت الديمقراطية واحترام آراء الخصوم السياسيين هي التي تسود العمل السياسي عوضا عن التصفية ونفي الاختلاف. ثم أعطت هذه الثقافة السياسية الجديدة للاقتصاد مكانه واحترمت قوانينه ولئن سادت هذه الثقافة الجديدة كل المناطق فإن المنطقة العربية لم تدخلها إلا مؤخرا مع انطلاق ثورات الربيع العربي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115