الواقع السياسي في قبضة هواة «العدمية»

تُقاد الصراعات بين الخصوم السياسيين على أكثر من واجهة وأوّلها:

على أرض الواقع. فبتكثيف الحضور في أماكن مختلفة والتفاعل مع الجماهير يتمكّن الحزب من تحقيق المرئية المطلوبة، ومن خلال الفعل المستمر في الواقع بتنظيم الحملات واللقاءات وممارسة الضغط وغيرها يستطيع الحزب كسب مزيد من الأنصار وسدّ المنافذ أمام الخصوم. ولكن الحياة السياسية التونسية الفتية فرضت خلال السنوات الأخيرة، انتقال المعارك السياسية إلى الفضاء الافتراضي فبرزت المواقع الخاصّة بأهمّ الأحزاب التي تنقل أخبار السياسيين وأنشطة القياديين، وتعدّدت المنشورات، وصار بثّ الأخبار الزائفة و«الأخبار العاجلة» وتشويه سمعة الشخصيات السياسية و«التلصّص» على حياتهم الشخصية ، والتراشق بالتهم وترويج صور الفوتوشوب شكلا من أشكال الصراع السياسي. وهكذا صارت المواجهة

على أشدّها واتّسع قاموس الخطاب السياسي فصرنا نتحدّث عن الكتائب الفايسبوكية التابعة لحزب النهضة، ومدّوني حزب النداء،وأنصار المؤتمر...وألفينا الخصوم يتوعّدون بعضهم بـ«تصفية الحساب» على الفايسبوك من خلال التدوينات.

وبما أنّ المحلّلين والإعلاميين يتوقّعون سنة «حارة» ووضعا سياسيا «ساخنا» وواقعا اقتصاديا متأزّما فإنّ المواجهات ستكون على أشدّها من حيث مضمون الخطابات، ومنسوب العنف، و«السقوط القيميّ» فكلّ شيء مباح في سبيل القضاء «بالضربة القاضية» على الخصم السياسي الذي صار يُنظر إليه على أساس أنّه العدوّ اللدود الذي ينبغي استئصاله من الحياة السياسية بعد تكبيده خسائر كبرى. وبناء على هذا التصوّر لطبيعة الحياة السياسية المميزة لسنة 2019 وللبنية العلائقية بين مختلف الفاعلين السياسيين وممثّلي المجتمع المدني والإعلاميين، وغيرهم ستكون «الأخبار العاجلة» متواترة والإثارة «خبزنا اليومي» و«دواوين الفضائح» مفتوحة.

قد يُحمل هذا السلوك المميّز للطبقة السياسية على أنّه نتيجة التكيّف مع واقع انتشر فيه العنف حتى تحوّل إلى مكوّن رئيس في الحياة السياسية التونسية ولكنّنا نذهب إلى أنّ الأميّة السياسية، وهشاشة الذين زُجّ بهم في المجال السياسي، وكثرة الشخصيات المعطوبة والمتطفّلة على المجال السياسي واختزال السياسة في بناء علاقات الهيمنة وتحصيل المواقع السلطوية، وحفظ المصالح ... كلّ هذه العوامل أفضت إلى تكريس قاعدة التنافس في «الهدم والتخريب».

ونحسب أنّ الوقوع تحت أسر الأساليب التقليدية في إدارة الشأن السياسي وعدم التخلّص من تراكمات التجارب المحلية التي جعلت تدبير الحكم في عهدي بورقيبة وبن عليّ المرجعيّة الوحيدة التي تستلهم منها الحلول والنماذج قد سيّجا المتخيّل السياسي التونسيّ. ومادام العجز عن صياغة البرامج وطرح البدائل وعسر ابتكار الأفكار سمة مميّزة لأغلب الفاعلين السياسيين فإنّه لا مجال لتجاوز هذه الثغرات إلاّ من خلال الاستمرار في حجب ضعف الأداء السياسي إن كان في مستوى الحكومة أو مجلس الشعب بتحويل وجهة نظر الناس إلى ما يمثّل مشاغلهم اليومية كرصد أخبار المشاهير أو المجرمين ... وليس التستر عن محدودية فهم المسؤولين لمتطلبات المرحلة الانتقالية إلاّ وسيلة لكسب الوقت.

بالإمكان الركون إلى هذا الواقع المتردّي وقبوله أو الانزياح وراء عمليات الإحباط أو الاستمرار في العويل والندب والتحسّر على الماضي ولكنّ العمى الإدراكي يحول دون تغيير زاوية النظر. فماذا لو انتبهنا إلى الأخبار السارة والمحاولات الجادة للخروج من «عنق الزجاجة» والمبادرات الفردية؟ ماذا لو قرأنا الواقع الجديد بأدوات فهم مختلفة فرأينا في رجوع بعض القضاة والأساتذة والجامعيين والموظفين إلى مدارسهم لترميمها وتجميلها علامة دالة على الفعل المواطنيّ المسؤول؟ ماذا لو رأينا في الفعل الثقافي في جبل سمامة على أنّه أمارة على إحداث ديناميكية في المناطق المنسية؟ ماذا لو لمسنا في تألق الشباب التونسي في الرياضيات والرياضة واحتلال مواقع صنع القرار في الخارج على أنّها حجّة على نبوغ التونسيين

وقدرتهم على التموقع من خلال المعرفة والأداء المتميّز؟ ماذا لو عدلنا عن السبّ والشتم والتعيير وحياكة المؤامرات للإيقاع بالآخر وتفانينا في أداء الواجب وخدمة الوطن؟ ماذا لو استعددنا لهذه الأيام العصيبة بتهذيب سلوكنا وتغيير علاقتنا بالآخر؟ فالآخر ليس العدوّ ولا الجحيم... إنّه شريك معنا في الوطن وهو وجهنا الآخر الذي لا نريد أن نعترف به؟
تونس ليست فضاء يرتع فيه الأغبياء والانتهازيون والسفلة والسفهاء... إنّها معين خصب للتفرّد والتميّز والعطاء...يكفي أن نعدّل البوصلة ونغيّر العدسة لنعبر إلى مرحلة سياسية جديدة قائمة على براديغمات مختلفة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115