قبل ثلاثة أيام من يوم الاقتراع: في الانتخابات البلدية المشاركة المكثفة هي الضامن الوحيد للديمقراطية

مازالت تفصلنا ثلاثة أيام عن يوم الاقتراع في أول انتخابات بلدية ديمقراطية

وتعددية في تاريخ تونس المعاصر.. وهذه هي المرة الخامسة منذ الثورة التي يٌدعى فيها الناخبون للادلاء بأصواتهم والأولى لوضع حجر الأساس للسلطة المحلية تجسيما للباب السابع من دستور البلاد..
ولعلّ هذه هي المرة الأولى منذ انتخابات 2011 التي لا يخيّم فيها الخوف من نتائجها السياسية بالأساس بقدر الخوف من عدم اقبال كبير عليها..

لاشك أن التونسيين اليوم موزعون بين من يعرف لمن سيصوت يوم 6 ماي وبين من عقد العزم على التصويت ولكنه لم يحسم بعد لأية قائمة سيعطي صوته وبين غير مكترث بهذه الانتخابات وأخيرا من سيقاطعها تعبيرا منه عن خيبة أمل كبيرة على مآلات المسار السياسي في تونس على امتداد هذه السنوات الثماني التي عقبت انتصار الثورة.. هذا دون الحديث عن صنف خامس لم يتمكن أو لم يرد تسجيل اسمه على القائمات الانتخابية وهؤلاء يمثلون زهاء ثلث المواطنين الذين يحق لهم التصويت...

كل هذه الأصناف موجودة في كل ديمقراطيات العالم مهما كانت عراقتها أو جدّتها ولكن الأساس هو في نسبها.. فكلما ارتفعت نسبة المشاركة في الانتخابات كانت الصحة الديمقراطية لبلد ما جيّدة وكلما انخفضت هذه النسبة كثرت الأعراض السلبية وتم التشكيك، أحيانا، في جوهر العملية الديمقراطية..

قد يُخيل الينا أن كل امساك عن التصويت يوم الأحد القادم انما يعبر عن «خيبة أمل» ما سواء كانت من السياسيين أو من العرض السياسي المخصوص بدائرة بلدية ما أو حتى من البلاد ومن مستقبلها ولكننا ننسى هنا الأهم وهو أن الحماس الكبير الذي رافق أول انتخابات ديمقراطية في البلاد في أكتوبر 2011 وحيث لم يكن التسجيل اجباريا وكان بامكان كل صاحب بطاقة تعريف أن يصوت إلا أن حوالي نصف التونسيين الذين يجوز لهم الانتخاب (46 ٪) لم يتحولوا إلى مكاتب الاقتراع حينها.. ووقتها لا خيبة أمل ولا غضب على السياسيين ولا يأس من البلاد.. هنالك فقط حقيقة لم نرد أن نتوقف عندها بما فيه الكفاية وهي أن نصف التونسيين يعيشون في عالم شبه منقطع عن العملية السياسية من الأساس..

فنحن أمام ظاهرتين مختلفتين: ضعف الصلة أو حتى فقدانها مع المجتمع السياسي من جهة وهذا يشمل ما بين ثلث ونصف الناخبين المفترضين وجلهم الآن خارج القائمات الانتخابية.. أما الظاهرة الثانية فهي جموع المواطنين المنخرطين ولو بصفة عرضية وهشة في المجتمع السياسي وهؤلاء هم المعنيون، تدقيقا، بخيبة الأمل والتي قد يترجمونها يوم الانتخابات إلى عزوف...

وهذه الفئة، قبل غيرها، هي التي ينبغي أن نركز عليها في هذه الأيام المتبقية قبيل يوم الاقتراع لنقول لها: إن سياسة المقاعد الشاغرة مضرة لكم بالأساس لأن أصواتكم لن تحسب ولن تؤثر حتى في المشهد المحلي اللصيق بكم.. وحدهم الذين يصوتون هم القادرون على التأثير والتغيير الديمقراطي..
في الانتخابات المحلية، كما في كل الانتخابات، لا وجود لتصويت غير مفيد.. كل تصويت هو تصويت مفيد ومؤثر ويزن عند احتساب الأصوات وعلى امتداد العهدة النيابية كاملة..

الديمقراطية ليست هدية من السماء أو منة من النخب أو دُولَة بين المهووسين بالسياسة.. الديمقراطية هي وسيلة وغاية وفلسفة لتنظيم قواعد عيشنا المشترك.. والتصويت لا يلزم المُصوِّت فقط بل المُصوًّت له كذلك لأنه سيكون مدينا له وسيسعى إلى المحافظة على هذا الصوت..
ان التعلل بفشل النخبة السياسية الحاكمة أو المعارضة أو الاثنين معا لتبرير الاحجام عن التصويت هو كسل ذهني وراحة نفسية للأغلب الأعم وطوباوية مثالية للبعض لأن المجتمعات الديمقراطية ليست شبيهة بجمهورية أفلاطون وفي الطبقة السياسية أناس جديون مخلصون وأناس انتهازيون وصوليون، وهذا لا يخلو منه مجتمع على الاطلاق..

إن التنظير للعزوف عن التصويت هو تنظير اما للاستبداد أو للفوضى لأنه بامكان كل رافض للعرض الانتخابي المخصوص في بلديته أن يضع ورقة بيضاء في الصندوق وأن يزن بها عند احتساب الأصوات وبعده كذلك، لأن الورقة البيضاء موقف مواطني له معنى..

ولكن يبقى الأصل في التصويت هو التصويت على العرض الانتخابي الأقرب الى ذهن وقلب الناخب وحتى وإن لم يكن هذا العرض مثاليا بالنسبة له.. فالتصويت لعرض فيه الحدّ الأدنى من المقبولية هو أفضل ولا شك من التصويت الأبيض لأن هذا الأخير هو تصويت انذاري بينما الأول هو تصويت لمشروع ما ولفريق ما، والانخراط - عندما تتوفر شروطه - أفضل دوما من الانذار فما بالك بالعزوف، تلك الآفة التي تنخر كل مسار ديمقراطي في بلادنا وفي غيرها من البلاد الديمقراطية..

لا ينبغي أن يكون التونسيون قصيري النظر.. فهم يعيشون في البلد العربي الوحيد الذي قطع مع كل أشكال الاستبداد أو «الديمقراطية الموجهة».. لا شك أن ديمقراطيتنا مازالت منقوصة ولكنها ديمقراطية فعلية ولها كل مقومات الانتقال إلى ديمقراطية كاملة.. وأنه لمن العبث أن نسهم بموقف كسول في زعزعة الثقة بها وبتوجيه رسالة إلى الداخل والخارج مفادها أن شعبنا قد «ضجر» من ديمقراطية لم تعش بعد عقدها الأول!!

جلنا في تونس متشائمون وقلقون على مستقبل البلاد ولكن الحل الوحيد والأوحد لكل أمراضنا وعللنا هو المشاركة في كل المحطات الانتخابية، مشاركة مكثفة تفرض على المنتخبين مراعاتها لا فقط يوم احتساب الأصوات بل وعلى امتداد كامل عهدتهم النيابية تحت رقابة الرأي العام والاعلام والمساهمة النشيطة لكل المواطنين...
من قرر التصويت لقائمة ما يوم الأحد المقبل فلينجز ومن قرر التصويت ولكنه لا يعلم إلى حدّ الآن لمن فليطلع على البرامج والفرق المترشحة وليختر ما يراه الأقرب له.. أما من هو غير مكترث بالعملية فنقول له صوّت وان لم يكن ذلك لنفسك فليكن لأهلك وذويك وإن كنت شابا فلمستقبلك في بلد يضمن لك الحرية والكرامة ولا يقايض الواحدة بالأخرى، ومن أصرّ على المقاطعة وضع ورقة بيضاء، فذلك أبلغ وأنفع.

كل تصويت هو تصويت مفيد وكل عزوف هو مضر بالبلاد وبرُقيّها..
لا تتصرفوا فقط انطلاقا من وضعكم الشخصي الحالي، بل صوتوا لتونس أفضل وأجمل وأعدل..

كل صوت سيحتسب وكل صوت سيقدم بنا إلى الأمام..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115