على هامش انعقاد المؤتمر الثاني عشر لجمعية النساء الديمقراطيات: في الدور التاريخي للنسوية السياسية في تونس

ما بين المؤتمر الثاني عشر للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات المنعقد نهاية الأسبوع الماضي والحلقات الأولى لتشكل الحركة

النسوية السياسية في تونس مرت زهاء العقود الأربعة ..

ففي نهايات سبعينات القرن الماضي تكونت حلقة تفكير ونقاش ضمت عشرات النساء ذوات التجربة السياسية في اليسار التونسي وقد احتضنتهن انذاك احدى رائدات النضال النسوي في تونس جليلة حفصية مديرة دار الطاهر الحداد..
كان يحدو هؤلاء المثقفات شعور بضيق التجارب اليسارية التونسية على تحقيق حلم المساواة لا داخل المجتمع فذلك أمر مازال بعيد المنال ولكن داخل مختلف التشكيلات والتنظيمات المنتمية لليسار والتي كان جلها ينظر إلى النسوية باعتبارها نوعا من الانحراف البورجوازي الصغير.. إذ وحده النظام الاشتراكي قادر على تحقيق المساواة بين الجميع وأن الاضطهاد الرئيسي هو اضطهاد رأس المال للقوة العاملة فلا وجود إذن لقضية نسوية خصوصية..
لقد كانت هذه البدايات الأولى للنسوية السياسية في تونس : الإيمان بوجود قضية خصوصية وكونية في آن واحد وأن تحقيق المساواة الكاملة بين الجنسين معركة أصلية لا يمكنها ارتهانها لمعارك أخرى ..
ولكن هذه المجموعة صغيرة العدد كانت تؤمن أيضا بأن قضية المساواة بين الجنسين لا يمكن فصلها عن النضال الديمقراطي بشكل عام وأن نظام بورقيبة الاوتوقراطي والأبوي لا يمكن له أن يحقق هذه المساواة لأنه لا يعترف بعنصرها الأول وهو المواطنة بما هي حرية واستقلالية للأفراد وسيادة لدولة القانون الديمقراطية ..
هكذا انطلقت النسوية السياسية في تونس وهي تصارع نفي الخصوصية الجندرية عند جل تنظيمات اليسار والنسوية الأبوية للسلطة السياسية القائمة على الاستبداد وهكذا ولدت هذه النسوية سياسية ومناضلة في نفس الوقت ..
ولقد طرحت في حلقات النقاش هذه منذ حوالي الأربعين سنة كل القضايا التي ستشكل فيما بعد الهوية الأصلية لجمعية النساء الديمقراطيات .لقد طرحت مسالة الحريات الفردية وحرية الفرد في التصرف الحرّ في جسده وتفكيك البنى الذهنية للمجتمع الأبوي الذكوري وأولوية المساواة في القانون أي أن يكون القانون ضامنا للمساواة الفعلية بين الجنسين وان هذا يستوجب من جهة نظاما ديمقراطيا ومن جهة أخرى نظاما لائكيا يقيم قوانينه وعلاقاته العامة على أسس وضعية لا تتدخل فيها المعتقدات والتشريعات الدينية كما أدركت هذه المثقفات منذ البداية ضرورة التنديد بالعنف المسلط على المراة داخل المجتمع وداخل الأسرة بالذات وعلى ضرورة تحرير كلمة المضطهدات من الخوف حتى لا يصبح هذا العنف المتوارث وكأنه حتمية لافكاك منها .
وتطورت أنشطة هذه المجموعة تدريجيا وشاركت في كل النضالات الديمقراطية التي شهدتها البلاد في سبعينات وثمانينات القرن الماضي وتمكنت من عرض أفكارها وتصوراتها في مجلة «نساء» التي أسستها إحدى الناشطات النسويات الأستاذة والأديبة آمنة بالحاج يحي إلى حين تحصلت على تأشيرة العمل القانوني بعد عقدين من النشاط في أوت 1989.
ولقد تمكنت هذه المجموعة الصغيرة العدد من فرض جملة من الأفكار والقيم في الساحة الديمقراطية التونسية لعل أهمها التأكيد على أن المساواة بين الجنسين أولوية مطلقة وأنها لا تتناقض البتة مع النضال الديمقراطي بل بالعكس تعطي هذه المساواة للنضال الديمقراطي والحقوقي بعدا قيميا وفلسفيا لا نستطيع دونه التأسيس لديمقراطية فعلية ..
ويعود الفضل كذلك للنسوية السياسية التونسية في التركيز على ما كان مستورا في مجتمعنا وهو العنف المسلط ضد النساء ولم تكتف النساء الديمقراطيات بالنضال الفكري فقط بل أقمن مركزا لإيواء المعنفات ورعاية أطفالهن وبعد الثورة أصبحت هنالك جمعيات متخصصة في هذا المجال نذكر منها جمعية «بيتي» لمؤسستها الأستاذة سناء بن عاشور وهي رئيسة سابقة لجمعية النساء الديمقراطيات ..
كما كانت هذه الجمعية أول من طرح بقوة مسألة المساواة في الميراث وجعلت منها عنوانا بارزا لمعاركها الديمقراطية ..
كما نذكر جميعا الدور الذي قامت به بمعية القوى الديمقراطية الأخرى لإفشال مشاريع الدستور الأولى القائمة على «التكامل» والتي أرادت الحركة الإسلامية فرضه على البلاد .. ولكن نضال النساء عامة والنساء الديمقراطيات خاصة أحبط كل هذه المحاولات الخارجة على السياق الديمقراطي التونسي ..
لاشك أن لهذه الحركة الفكرية حدودا وأخطاء ولعل أهمها عدم قدرتها على التحول من مجموعة ضغط قبل الثورة إلى حركة ذات رقعة جماهيرية واسعة وأنها بذلك قد فوتت على نفسها ، وعلى البلاد ، فرصة لترويج الأفكار النسوية والديمقراطية ولكن يمكن أن نقول أيضا أن عشرات الجمعيات الناهلة من هذا المعين الفكري إنما هي دلالة على رواج الأفكار وانتصارها أيضا ..
ولعل الانتصار الأكبر للنسوية السياسية التونسية هو انتصار أفكارها حتى وإن كان ذلك بواسطة قوى أخرى ، فالقانون المجرم للعنف على النساء والذي صادق عليه مجلس نواب الشعب في الصائفة الفارطة اكبر دليل على ذلك ..
كما أن تبني رئيس الجمهورية لأحد الشعارات المركزية للنسوية السياسية التونسية ونعني به المساواة في الميراث دليل واضح على هذا الانتصار الفكري ..
تراث ضخم من النضال تحمله اليوم قيادات شبابية جديدة لم تكن حاضرة في عقود التأسيس وملحمته ولعل المهمة المنوطة اليوم بعهدتها هي الخروج بالنسوية السياسية من مرحلة مجموعة الضغط إلى مرحلة التيار الفكري والسياسي الواسع ..
ولكن ما لا ينبغي أن ننساه اليوم في كل الحالات هو الإضافة الكبيرة للنسوية السياسية للحركة الديمقراطية قبل الثورة وبعدها وان ما اختلج في عقول وصدور تلك الشابات المثقفات في نهاية السبعينات هو بصدد الإسهام الفعلي في نحت تونس الغد ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115