تونس سائرة على درب بورقيبة ولو بخطى متعثرة: أمّة موحّدة ومواطنون متساوون

مرت يوم أول أمس ثماني عشرة سنة على وفاة زعيم تونس الحبيب بورقيبة.. ورغم تباعد الذاكرة الحية ومغادرة «المجاهد الأكبر» مسرح السياسة والسلطة منذ أكثر من ثلاثة عقود

فبورقيبة مازال حيا لا فقط في وجدان معاصريه ولكن أيضا في المشكلات الجديدة التي طرأت على البلاد بفعل الانتقال الديمقراطي..
مشاكل تونس اليوم لا علاقة لها بما كانت تعيشه البلاد في ثلاثينات القرن الماضي زمن انبجاس العبقرية البورقيبية ، وتجربة بورقيبة في الحكم فيها مثالب كثيرة وليس من أدناها حكم الفرد إلى حدّ عبادة الشخصية وكثرة المحاكمات السياسية وانتهاكات حقوق الإنسان .. ولكن ورغم كل هذا تبقى وصفة بورقيبة لأمراض تونس هي الناجحة لأنها انبنت على رؤية ثاقبة.
لقد كان هاجس بورقيبة الأكبر تكوين امة من « رماد من الأفراد» (Une poussière d’individus) في صورة مبالغة لتذرر المجتمع التونسي في ثلاثينات القرن الماضي وانقساماته القبلية والعروشية والجهوية ..
خلق «امة تونسية» كان هاجس بورقيبة الأكبر وهو هاجسنا اليوم أيضا خلق امة يتطلب بدءا التحكم في ماردها النوميدي أي في هذه النزعة الانقسامية الطبيعية في كل مجتمع قبلي ما قبل ترسيخ الدولة الوطنية الجامعة ، ولهذا كان بورقيبة الذي لم يعرف من الحياة العملية على امتداد ربع قرن قبل وصوله إلى السلطة سوى النضال والسجون والمنافي مصرا على تأسيس دولة قوية لا فقط لأنها هي أداة التحديث الأساسية بل ولأنها أيضا الوسيلة الوحيدة المتاحة لخلق امة بما تعني الأمة من قيم وأحلام مشتركة .. حلم الاستقلال اولا وحلم بناء الدولة العصرية ثانيا ..
لاشك بان بورقيبة كان يعتقد بان تونس ليست ناضجة للديمقراطية لأنها لم تصهر بعد في وحدة قومية «صماء» كما كان يقول .. وبورقيبة كان يعتقد بان الديمقراطية قد تعيد هذا «المارد النوميدي» وتقضي بذلك على هذه الوحدة القومية الغضة..
بورقيبة العصري كان ينتمي لثقافة القرن التاسع عشر والتي ترى أن توحيد الأمة لا يحصل إلا بدولة موحدة قوية وبزعيم كارزمائي تماما كما حصل في ألمانيا مع بيزمارك وفي ايطاليا مع قاريبالدي ..
فالأمة تتوحد في شخص الزعيم وصورته تماما كما جسّد المسيح الخلاص البشري من الخطيئة الأصلية عند المسيحيين ..
فالزعيم ليس مستبدا كما هو حال جنرالات أمريكا اللاتينية وإفريقيا واسيا والعالم العربي في ستينات وسبعينات القرن الماضي .. الزعيم هو المخلص وهو ضروري لوحدة الأمة على نمط نابليون أو بعده اتاتورك وبورقيبة ..
هذه عظمة بورقيبة وحدوده أيضا، وما إزاحته من السلطة بتلك الطريقة المهينة بعد أن تلاعبت به جماعات القصر ومؤامراتهم خلال السنين الأخيرة من حكمه إلا علامة قوية على هذه الحدود وان الأمة العصرية لا تحصن من التذرر إلا بديمقراطية قوية وان الديمقراطية القوية تتطلب حتما موتا معنويا للزعيم حتى تنبجس الأمة في جسد الوطن لا في جسد الزعيم ..
ولكن نكتشف اليوم من جديد أن تأسيس الأمة ضرورة تاريخية وأن تونس ليست بعد تلك الأمة المكتملة التي حلم بها الزعيم وان «المارد النوميدي» قد عاد إلينا ولكن في أشكال جديدة وتحت مسميات مختلفة ..
ولكن يخطئ من يعتقد بأننا سنؤسس امة بزعيم ملهم جديد.. لأن الزعيم قد أدى دوره التاريخي على أحسن ما يرام وتمام هذا الدور أن ينتهي عصر الزعيم وان ينبجس عصر الأمة وإرادتها الجماعية ..
صحيح ان تحديات تأسيس هذه الأمة صعبة وأننا لم نتوفق بعد لإيجاد هذا الرابط الجماعي الذي يجعل من أفراد تونس وقبائلها نظما متناغما ينتج القوة والفاعلية.. ولكن بصمات بورقيبة ماثلة في كل هذه «القبائل» حتى وان كرهه بعضها.. وتونس اليوم امة تشكو من هشاشات ولاشك ولكنها امة تشكلت عبر التاريخ ولعبت فيها شخصية الزعيم دورا محوريا منذ بداية الحركة الوطنية وما ينقصها اليوم هو حلم مشترك تؤسس به لتونس الديمقراطية والرفاهية المتقاسمة.. الملاحظ لسيرورة الأمة التونسية يلمس بوضوح توجهها نحو هذا الأفق وإن كان ذلك بخطى غير ثابتة ومتعثرة في احيان كثيرة ..
أما اللمسة الثانية الباقية في الفعل البورقيبي فهي إرادته تكوين امة مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات والخروج من قرون من الهيمنة الذكورية إلى عصر من المساواة بين النساء والرجال ..إنها ثورة بورقيبة الاجتماعية الرائدة في العالم العربي .. ثورة انطلقت منذ الأيام الأولى للاستقلال وترجمت بالكاد في أربعة أشهر بمجلة الأحوال الشخصية التي ألغت دفعة واحدة تعدد الزوجات والطلاق الذي كان بعصمة الرجل وحددت سنا دنيا للزواج فغيرت بصفة جوهرية من نمط العائلة التونسية وتبعت هذه الثورة ثورات أخرى بتعميم التعليم الإجباري ثم تدريجيا التعليم المختلط وبإعطاء المرأة الحق في الإجهاض وبسياسة قوية وأحيانا فيها نوع من الإجبار في المناطق الريفية على تحديد النسل لتصبح العائلة التونسية في ظرف عقد من الزمن عائلة نووية عصرية ضعف فيها كثيرا التمييز بين الإناث والذكور إلى أن تجاوزت آلبنات رفاقهن في كل مراحل الدراسة وبتميز كبير.
هذه هي أمة المواطنين لا امة الرعايا والتي تواصل أثرها الايجابي بعد خروج «المجاهد الأكبر» من مسرح السياسة وانتصرت بعد الثورة وأعطت لها توجها خاصا ..
واليوم أضحت البلاد مستعدة للدخول في المراحل الأخيرة من أمة المواطنين والمواطنات بإقرار المساواة النهائية والتامة بين الجنسين في الميراث وفي غيره من بعض بقايا التمييز الجندري ..
لقد أكد رئيس الدولة الباجي قائد السبسي على هذا المعنى يوم الجمعة بالمنستير بمناسبة إحياء ذكرى وفاة الزعيم وقال انه سائر على درب بورقيبة ..
وما يمكن قوله هو أن تونس بأسرها سائرة على درب بورقيبة والوفاء للزعيم الخالد لا يعني تقديسه او القول بما كان يقوله ..
الوفاء لروح بورقيبة هو وفاء لفكرته الأصلية : امة المواطنين ولكن بأدوات جديدة تتجاوز جسد الزعيم إلى جسد المجتمع وإرادته الفردية إلى الإرادة الجماعية الحرّة..
الوفاء لبورقيبة هو اليوم البناء الوطني والتأسيس لديمقراطية كاملة وشاملة أما الحالمون بعودة القائد الملهم والمستبد العادل فهم يسهمون ، من حيث يعلمون أو لا يعلمون ، في عودة ذلك «المارد النوميدي» الذي قضى بورقيبة حياته كاملة في محاولة إخماده ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115