قراءة في مسيرة 10 مارس 2018: إرادة الحياة

«ليس الخبر كالمعاينة» ومن لم يواكب مسيرة 10 مارس 2018 للمطالبة بالمساواة في الإرث لا يستطيع

أن يدرك أهمّية هذا الحدث الذي أعاد «التونسيين والتونسيات» إلى الصدارة فراحت مختلف وسائل الإعلام المحلّية والعالمية تنقل الخبر وتعلّق ، إن بتفاوت، مُفسحة المجال لبعض المنظّمات لهذه المسيرة (أكثر من 70 جمعية) والمشاركين فيها من التعبير عن مواقفهم ومشاعرهم. وليس بمقدور المواكب لهذا الحدث الذي كان على نصيب كبير من التنظيم المحكم والإحاطة الأمنية إلاّ أن يتبيّن بعض الجوانب الإيجابية التي نجمعها في الآتي:

- لئن استثمرت بعض وسائل الإعلام العالمية خبر انخراط فئة من التونسيات في الإرهاب في محاولة لتشويه مسار النضال النسوي فإنّ مسيرة المطالبة بالمساواة في الإرث أزاحت الصورة السلبية لتستبدلها بالصورة الإيجابية: فها أنّ التونسيات يرفعن سقف المطالب ويتصالحن مع الفضاء العامّ ليعبّرن بكلّ عفوية عن رغبتهن في تحقّق المواطنية الكاملة.

- أراد البعض إيهام الجموع بأنّ غاية «العلمانيات» انتزاع السكينة والمودة بين الرجال والنساء ليؤسسن علاقات تصادمية تفكك النسيج المجتمعي ولا غرابة في ذلك مادات هؤلاء «تغريبيات» ويشتغلن وفق أجندا غربية. ولكنّ المتأمل في المشاركين في هذه المسيرة يسهل عليه/ها تفنيد هذه المزاعم التي ماعادت تقنع الجماهير. فانخراط الكهول والشبان والشيوخ في الدفاع عن المساواة التامة بين الجميع على قاعدة المواطنة والعدل و... أثبت بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ المطالب ما عادت نسائية فقط بل هي مطالب شرائح من التونسيين بقطع النظر عن الجندر والطبقة والدين (وجدنا البهائيين والمسيحيين وغيرهم حاضرين ومؤازرين) والطبقة.

- استطاع عدد من السياسيين تعديل مواقفهم فلم ينظروا إلى المساواة على أساس أنّها لا تمثّل «أولوية التونسيين» بل شاركوا في المسيرة وهتفوا ورفعوا الشعارات. وبقطع النظر عن تأويل هذه المشاركة سياسيا فإنّ الأهمّ في نظرنا هو أن يخرج السياسيون من حالة الصمت إلى التعبير، وأن ينتقلوا من إبداء موقف خجول من المسألة إلى اتخاذ موقف أكثر جرأة.

- لئن ركّز البعض على صور من كنّ يرفعن شعارات ضدّ المساواة «وفق مبدأ وشهد شاهد من أهلها» فإنّ المشاركات تقبلن هذا الأمر بكلّ رصانة فلم تحدث حالات تبادل للعنف. ونذهب إلى أنّ وجود هذه الأصوات المختلفة مهمّ لأنّها تعكس التنوع والتعدد والتعايش السلمي الذي نريد تحقيقه في تونس، وتثبت أيضا أنّ الاختلاف علامة على أنّ البطريكية لا تنتعش إلاّ بمؤازرة فئة من النساء ينهضن بدور حارسات المنظومة وداعمات القيم الذكورية.

- أبانت هذه المسيرة عن خلخلة أربكت نظام التمثلات ومنظومة الصور النمطية. فمن «المحجبات» من رفعن الشعارات المطالبة بالمساواة في الإرث ومن غير المحجبات من نادين بضرورة احترام أحكام القرآن، ومعنى هذا أنّ «الحداثية» ليست بالضرورة غير المحجبة وأن المدافعة عن الأبوية والشريعة والقراءة الحرفية للنصوص ليست دائما المحجبة، وهو أمر مهمّ على مستوى تغيير الذهنيات إذ آن الأوان لينبذ التونسيون إصدار الأحكام وفق الظاهر.

- استنكف أغلب الرافضين لهذا المطلب من الدخول في مواجهة مع «العلمانيات... في الشارع، وهو قرار صائب. ولكنهم نقلوا «تصفية الحسابات» إلى صفحات الفايسبوك وهو أمر يفضح العنف المتأصل فوجدنا سلسلة الشتائم المعهودة التي توجه للناشطات ، وعثرنا على من يشتمون «أشباه الرجال» و«المخنثين» الذين قرّروا النزول إلى الشارع والدفاع عن المساواة... غير أنّ هذه الأصوات المحاصرة بدوائر الخوف ما عادت مؤثرة «فالقافلة تمرّ» والحوار المجتمعي سيتواصل أحب من أحب وكره من كره.

- اختلفت أشكال النشاط الحقوقي النسائي وتنوعت الشعارات من جمعية إلى أخرى. والملفت للانتباه في كل ذلك هو التفاف الجميع حول القضية وتحويل الفضاء العمومي إلى فضاء للتعبير عن السعادة فوجدنا الغناء والطرب والزغاريد والطبال والرقص... إنّها إرادة الحياة ...

- كشف إصرار النساء الديمقراطيات على عرض سلسلة من الفيديوهات على الشاشة الكبرى مدى تنوّع المشاركين (رجال ونساء، من تونس ومن الخارج...) وكثرة الحجج الداعمة للمساواة في الإرث واتساع مجالاتها. فلم تعد المقاربة دينية ولا قانونية بل انفتحت على زوايا أخرى كالأنتربولوجيا وعلم الاجتماع ومقاربة الجندر وغيرها ممّا يثبت ديناميكية فكرية وثراء في إنتاج آليات الاحتجاج.

مسيرة 10 مارس ليست طوباوية بل ممثلة لموازين القوى ومراعية للواقع ولذلك يدرك الجميع أنّها خطوة أولى وستتبعها خطوات أخرى ..
لك المجد يا تونس الخضراء بجهود نسائك ورجالك ستنهضين وستكونين شامخة بين الأمم.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115