بل يتداخل المصلحي مع السياسي مع الفكري لإنتاج سلسلة من الحمايات المتبادلة لا تظهر بالوضوح الكافي إلا في مراحل الأزمة أو في أوقات الشدة لكل طرف على حدة..
رأينا في مناسبات سابقة آليات التضامن والحماية المتبادلة بين النهضة والنداء،فالنهضة تحتاج للنداء لحمايتها من كل التقلبات الإقليمية والدولية التي تستهدف الإسلام السياسي في المنطقة وهي تحتاج أيضا للتحالف الاستراتيجي مع الحزب الذي أسسه الباجي قائد السبسي حتى تتمكن من التأقلم النهائي مع محيطها المحلي سياسيا واجتماعيا ،فالأخ الندائي الأكبر ضروري لها في كل هذه المراحل ولذا هي تريد تحويل «التوافق» بين «الشيخين» إلى تحالف استراتيجي دائم بين الحزبين..
في المقابل تحتاج القيادات الحالية للنداء الملتفة حول حافظ قائد السبسي إلى دعم متواصل من حركة النهضة، دعم يقيها من المحاولات المستمرة للانقضاض على قواعدها الانتخابية وإطاراتها العليا والوسطى ودعم يجعل النداء دائما الحزب الأول رغم الخسارات الكبيرة التي سجلها في صفوفه خلال هاتين السنتين الأخيرتين، فالنداء الحالي لا يمكن له الحلم بالمكوث في الحكم دون إسناد كلي وغير مشروط من قبل الحركة الإسلامية..
ولكن في تونس لدينا حمايات متبادلة من أصناف أخرى وأوضحها اليوم تلك الحاصلة بين رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة ومن تبقى معها وحركة النهضة..
فلولا حركة النهضة لما انتخبت السيدة سهام بن سدرين رئيسة لهيئة الحقيقة والكرامة ولو لا حركة النهضة لما تمكنت من مواصلة مشوار شابته خروقات كثيرة ليس من أدناها رفضها لتطبيق عدة قرارات قضائية صادرة عن المحكمة الإدارية..
ففي كل مناسبة ورغم فداحة التجاوزات والتصرف الشبيه بالاستبداد الشرقي لرئيسة الهيئة تقف حركة النهضة درعا واقيا لها من كل الهجومات التي تستهدفها وسواء كانت عن موجب حق أم لا ..
ويبدو أن ثمن هذا الدعم اللامشروط من لدن الحركة الإسلامية لرئيسة الهيئة الحقيقة والكرامة كان له هدف رئيسي : التعويض لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان والذين ينتمي جلّهم لحركة النهضة..
وينبغي أن نؤكد – رغم اعتراض جزء من الرأي العام – بأن التعويض المعنوي والمادي لضحايا انتهاك حقوق الإنسان من الإسلاميين واليساريين والنقابيين والقوميين وغيرهم مسالة مشروعة لا جدال فيها ولا تحتاج لأيّة مقايضة سياسية او غيرها ..إنه من شرف الثورة التونسية ان تطوي جراح الماضي وأن يعترف الجلادون بما اقترفوه وأن تكشف كل الحقائق وأن نحصّن بلادنا بصفة نهائية من العودة إلى هذا العهد..
ولكن ينبغي الإقرار أيضا بأن تعامل القيادات النهضوية مع هذا الملف لم يكن دوما سويا وأنهم قد أعطوا الانطباع في أكثر من مناسبة بأن هنالك غلبة لثقافة الغنيمة وأن ما عجزت حكومة الترويكا عن القيام به ستقوم به هيئة الحقيقة والكرامة..
ولكن يوم الجمعة الماضي اتضح أن هنالك مقايضة أهم بكثير من جبر الضرر لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان إنه السعي لتبرئة قيادات النهضة الحاكمة من كل شبهة انتهاك لحقوق الإنسان..
بإمكان هيئة الحقيقة والكرامة أن تقدم كل التفسيرات والتبريرات ولكن في جلسة يوم الجمعة الماضي كان هنالك سعي حثيث لتبرئة حكومة الترويكا الأولى من القيام بانتهاك حقوق المواطنين في سليانة وأن ما حدث أي إصابة المئات بسلاح محظور وطنيا ودوليا ،إنما هو من مسؤولية القيادات الأمنية لا السياسية ..
بل اضافت الهيئة تحديا واستفزازا لكل أهالي سليانة ولكل التونسيين عندما نشرت تصريحات مسجلة لوالي سليانة ولعلي العريض وزير الداخلية آنذاك وخاصة لحمادي الجبالي رئيس حكومة الترويكا الأولى الذي كال التهم للمحتجين واصفا إياهم ،في احسن صورهم،ببيادق بين أيادي أعداء الثورة وبارونات الفساد..
تقول لنا رئيسة الهيئة بأن فلسفة جلسات الاستماع هي الاستماع لكل وجهات نظر الفاعلين الأساسيين : الضحايا ومن تحوم حولهم شبهة انتهاك وبقية الفاعلين الآخرين..ولكن لم كان هذا فقط لجلسة الاستماع لأحداث سليانة ؟ لم غابت هذه «الفلسفة» عن جلسات الاستماع العلنية الأخرى ؟ لم لم تحضر الهيئة الحكام السابقين أو من يمثلهم سواء تعلق الأمر بالخلاف
البورقيبي اليوسفي أو بأحداث الثورة أو بالمحاكمات السياسية للنقابيين واليساريين والإسلاميين ؟ !
وهل تنتمي «شهادات» الجبالي ووالي سليانة من قريب أو من بعيد إلى مسار العدالة الانتقالية ؟ ! أين الإقرار بالخطأ ؟ أين بداية الاعتذار؟ !
ينبغي أن نتذكر أن المعارضة الديمقراطية والاجتماعية قد أصرت إبان التصويت على قانون العدالة الانتقالية بأن تمتد فترة نظر الهيئة إلى نهايات سنة 2013 لا فقط إلى نهاية حكم بن علي والسبب الأساسي في ذلك هو إدراج قضية الرش في هذا المسار.
بالطبع لا يمكن لأحد أن يتجرأ ويقول أن إصابة المئات بالرش ليس انتهاكا جسيما لحقوق الإنسان ولكن يبدو أن الهيئة أرادت التخفيف ما أمكن عن القيادة النهضوية وتحميل كل ما حصل إلى القيادات الأمنية كما سمحت الهيئة للمسؤولين النهضويين السابقين باتهام اتحاد الشغل والأهالي بالضلوع مباشرة أو بصفة غير مباشرة في الفساد أو في التآمر على الدولة..
انه منطق الحماية المتبادلة والذي تذهب ضحيته الحقيقة والكرامة في آن ..