عقوبة الإعدام متى نعلن الإلغاء الشامل؟ !

تقف تونس في مسائل عديدة في ما تعتبره منطقة «الوسط» لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك تحت شعار «لا إسراف ولا تقتير» ..ومن بين هذه المسائل عقوبة الإعدام فبلادنا التزمت منذ سنة 1991 بألاّ تطبق هذه العقوبة ولكنها لم تلغها من ترسانتها القانونية ، بل زادت في تدعيمها بمناسبة إقرار قانون مكافحة الإرهاب ومنع غسيل الأموال ..والنتيجة المأساوية لهذا الموقف

المتذبذب أنه أصبح لدينا في سجوننا ممرات للموت تضم أكثر من سبعين شخصا حوكموا بهذه العقوبة وهم لا يعلمون متى ستطبق عليهم..

خصوم إلغاء عقوبة الإعدام كثيرون في بلادنا وفي العالم وحجتهم الأساسية في ذلك أن العقاب الوحيد المناسب للجرائم الفظيعة هو الإعدام لا غير ويضيفون على ذلك حججا دينية قوامها آية القصاص : «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون».
نحن إزاء مسألة فلسفية وروحية من الطراز الرفيع : هل يجوز للمجتمع البشري أن يعاقب بإعدام أحد أفراده أم لا ؟ هل تتصرف الدولة الحديثة كما يتصرف المجرمون ، أي هل تسمح لنفسها بقتل مواطنين بحجة اقترافهم لجرائم بشعة..؟
إننا أمام مطلقي الحياة والموت ونسبية عدالة البشر وفلسفة العقاب في مجتمع متحضر ..وهذا النقاش لم يأخذ بعد كل مداه في بلادنا رغم وجود حركة حقوقية إلغائية منذ ثمانينات القرن الماضي..

ينبغي أن نعلم أن حوالي نصف بلدان العالم قد ألغت عقوبة الإعدام وأن الديمقراطيات التي مازالت لم تلغها تعد على أصابع اليد الواحدة ومن بينها بعض الولايات الأمريكية ..وتفيد كل الدراسات التي حصلت في هذه البلاد الالغائية أن الجرائم البشعة لم تكثر فيها بعد إلغاء هذه العقوبة وأن وجود الإعدام في ترسانة تشريعية ولو بكثافة لا يحمي من أي شيء..لا من الجريمة المنظمة ولا من الجرائم البشعة ولا من الإرهاب..

والحجة الدينية هنا واهية أيضا إذ مع إقرارنا بوجود حكم الإعدام في النص القرآني ، ولكنه حكم ،من الناحية التاريخية ،منسجم مع منظومة تشريعية (الشريعة) قد غابت جلّ عناصرها وأسسها فلا يمكننا أن نحافظ على عنصر وحيد من منظومة لم تعد موجودة في جل البلدان الإسلامية..
ولكن النصوص الدينية لا يتعامل معها فقط في سياقاتها التاريخية الواقعية بل وكذلك في سياقات تأويلية حيث تستدعى لزمان غير زمانها فيفجر فيها التأويل معاني وأفكارا جديدة لم يكن من الممكن التفكير فيها زمن نزولها..
فالعفو والحدّ في مسألة الإعدام ليس متناقضين بل هما متكاملان كما بين ذلك الفيلسوف يوسف الصدّيق..

فالحدّ هو الحاجز الحائل دون التوسع الهمجي في القتل بمقتضى الثأر القبلي..فالحدّ يحد من انفلات الثأر ومن تجاوزه للمعاملة بالمثل (يا أيّها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) ولكن الآية الكريمة تواصل فتقول «فمن عُفِي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان (..)» (سورة البقرة الآية 178) فالقصاص ليس غاية في حد ذاته بل غايته الإنسانية هي العفو ..ليس العفو عن الجريمة أيا كانت هذه الجريمة بل العفو عن المعاملة بالمثل وعن الإبقاء على حياة المذنب أيا كان ذنبه..

إننا هنا فيما يسميه المتصوفة في معارج الروح أي إن كان الإعدام ينتمي إلى «الإسلام» فالإلغاء (أي العفو) ينتمي إلى «الإحسان» وفق الحديث الشهير الذي يجعل من الإسلام عمل الجوارح ومن الايمان التصديق بالعقائد ومن الإحسان الإخلاص الكلي والمرتبة الأسمى في معارج الروح..
إنه بمقدور تونس رغم مشاكلها الداخلية وأزماتها الاقتصادية والاجتماعية أن تكون رائدة في معارج الروح تنير بثروتها الطريق الصعبة لحرية كاملة الأوصاف والشروط..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115