أزمة نقابة التعليم الثانوي: الشجرة والغابة

نستعمل عادة في تونس كلمة «أزمة» للتدليل على وجود مشكلة ما ولكننا نريد اليوم استعمال مفهوم «الأزمة» في معنى مختلف لا ينفي وجود مشكلة مستفحلة ولكنه يعني أيضا تفاقم التناقضات داخل منظومة ما إلى حدّ استحالة تواصلها.. وبهذا

تكون الأزمة تلك المرحلة التي تشهد انهيار منظومة معلومة وبداية تشكل منظومة جديدة لم تبح بعد بكل تطوراتها الممكنة..

لو أردنا أن ننظر بعين الإنصاف إلى ما يجري منذ أشهر ، بل بضع سنوات ، بين نقابتي المربين وخاصة النقابة العامة للتعليم الثانوي ووزارة التربية من جهة وبينها وبين قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل من جهة أخرى لقلنا بأننا أمام أزمة بهذا التوصيف الذي أعطيناه ..أزمة مؤشرة إلى انهيار منظومة معقدة يتداخل فيها النقابي بالسياسي والإيديولوجي بالتربوي ..ولكن مخاض هذه الأزمة مازال مرتفعا والخلاف اليوم بين النقابة العامة للتعليم الثانوي والمركزية النقابية حول تعليق الدروس (أي إضراب مفتوح) إن هو إلا أحد جوانبها..

يخطئ من يعتقد أن الصراع بين نقابات المربين ووزارة التربية خاصية تونسية..بل هي القاعدة في جلّ الدول الديمقراطية ولاسيما في الدول ذات الثقافة اللاتينية والمتوسطية.. فنقابات التعليم هنالك مسيسة إلى النخاع وهي لا تخفي ميولها الإيديولوجية اليسارية وعامة ما دخلت في صراع حاد مع حكومات اليمين واليسار متهمة إياها بالحطّ من المدرسة العمومية وبتهميش دور المربي وبإقصائه من كل عملية إصلاح المنظومة التربوية..

فجزء ممّا يجري أمام أعيننا عادي للغاية إذ من الطبيعي جدّا أن تكون الهياكل النقابية في هذه المهن بالذات مسيسة وان يكون لها تصور فكري وسياسي لإصلاح المنظومة التربوية علاوة على دورها المطلبي التقليدي..

وهذا الوضع ليس جديدا في هياكل نقابات المربين بل يعود إلى سبعينات القرن الماضي حيث شهد اتحاد الشغل التحاق الآلاف من خريجي الجامعات المسيسين بصفوفه وصعدت هذه الإطارات النقابية الشبابية الجديدة إلى مواقع قيادية في بعض القطاعات ولاسيما في كل مستويات التعليم منذ الثمانينات.. وهذه الثقافة السياسية الجديدة نسبيا على الهياكل التاريخية لاتحاد الشغل تتكون من خليط بين الأفكار اليسارية والعروبية والثقافة النقابية التي تسمّى بالعاشورية (نسبة إلى الزعيم الراحل الحبيب عاشور) وأصبح هذا المزيج قبل الثورة وخاصة بعدها عنصرا أساسيا في التراث الفكري والحركي للمنظمة الشغيلة..

الإشكال الأساسي بالنسبة لاتحاد الشغل لا يتمثل في ثراء وتنوع المنابع الفكرية والسياسية لمناضليه وإطاراته ..الإشكال يكمن فقط في عملية « إطلاق اليد» التي لجأت إليها المركزية النقابية بعد الثورة أحيانا لاختيارات تكتيكية وأحيانا أخرى من موقع الاضطرار..

إذ لا يخفى على احد أن الصعود القوي لبعض النقابات العامة (التعليم الثانوي ..التعليم الأساسي.. الصحة..) كان يعطي للمركزية إمكانيات تفاوضية اكبر وخاصة مع بداية 2015..ولكن في ذات الوقت أصبحت بعض النقابات العامة دويلات شبه مستقلة واختلط لدى بعضها السياسي بالنقابي بنوع من الاعتداد بالقوة فأصبحت لها استراتيجيات نضالية تتناقض أحيانا مع أولويات المركزية النقابية..

مسألة أخرى لابد من الإشارة إليها وهي بقاء الخليط الفكري السياسي اليسار العروبي الذي اشرنا إليه في البداية في مستوى تشكلاته الأولى .. فبيانات النقابة العامة للتعليم الثانوي تذكرنا في بعض جوانبها بشعارات الحركة الطلابية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي..

فعندما نطالع بيان النقابة العامة للتعليم الثانوي حول قرار تعليق الدروس بتاريخ 14 مارس الجاري نجده يقول أن الحكومة برفضها إيجاد بدائل عن وزير التربية « قد اختارت التمادي في نهج تكريس خياراتها اللاشعبية واللاوطنية» وعندما نطالع نص اللائحة المهنية التي انبثقت عن اجتماع 11 مارس الحالي الذي جمع الهيئة الإدارية لقطاع التعليم الثانوي وتم إمضاؤها باسم «أعضاء لقاء الجهات» عبارات ومفاهيم تعود إلى تلك العقود من صنف «إصرارا الحكومة على التمادي في تنفيذ املاءات الدوائر الامبريالية القاضية بالتفويت في ما تبقى من المرافق العمومية» أو «استمرار الهجمة الإعلامية الممنهجة التي تشنها بعض الأبواق المأجورة»..

والغريب أننا لم نعد أمام شباب في العقد الثالث من العمر وأنّ نفس هذه الهياكل قد دخلت في مفاوضات مطلبية مع الوزارة سنة 2015 وقبلت الانخراط في عملية الإصلاح التربوي في عهد الناجي جلول – والواضح أن «طبيعة النظام» كما كان يقول الرفاق القدامى لم تتغيّر في ظرف أشهر معدودات .. إذن لم هذا التغيير الكلي في الاستراتيجيا النضالية وجعل من الإطاحة بوزير مطلب المطالب لهذه الهياكل النقابية .؟..

الواضح أننا أمام استعمال ترسانة من المعايير كأدوات نضالية لا غير وكدليل على «هوية» القائل أكثر ممّا هي نقد جدي للسياسات الحكومية.

لا نعتقد بأن الفاعلين الأساسيين صلب هذه الهياكل النقابية مدركون تماما أنهم بإستراتيجيتهم الجديدة هذه سوف يسرّعون من نهاية مرحلة ما في تاريخ البلاد وتاريخ العمل النقابي أيضا.. وهذا ما قصدناه بالأزمة هنا.. إذ سرعان ما تحولت «الحرب» ضدّ وزير التربية إلى صراع نقابي داخلي وذلك لأسباب واضحة وجلية فالمركزية النقابية المقبلة على مفاوضات هامة وعسيرة مع الحكومة لا تريد أن يضعف موقعها التفاوضي بحكم هذا المطلب القصووي.. ولكن الأهم من كل ذلك هو وصول نوع من الحوكمة الداخلية لاتحاد الشغل إلى حدودها وشعور القيادة بضرورة إقحام جرعات إضافية من المركزية..

لا شيء يفيد بان النقابة العامة للتعليم الثانوي تريد المواجهة النقابية مع القيادة بل كل بياناتها مصاغة بحذر شديد من هذه الزواية.. هي تريد فقط أن يكون مطلبها هو احد المطالب الهامة للمركزية النقابية في الوضوح ودون مفاوضات تحت الطاولة..إنها تريد انتصارا معنويا إذ ستجد صعوبات كبرى لتبرير أشهر من التأطير والتصعيد دون الوصول إلى نتيجة ملموسة..

ولكن حتى لو حصلت النقابات على مبتغاها واضطررت حكومة الشاهد لإيجاد «بدائل» عن الناجي جلول فلقد وصلنا ،نقابيا وسياسيا، إلى نقطة اللاعودة..نقطة لن يكون بعدها ممكنا أن تتواصل هذه «المملكات الصغيرة» بنفس الاستراتيجيات وبنفس «النجاحات» .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115