في الذكرى الستين لقيامها: الدولة الوطنية، أصلها ثابت وفرعها في السماء

يصادف مرور ستة عقود كاملة على قيام دولة الاستقلال الوطنية لحظة هامة من تاريخ الأمة التونسية. يمر اليوم ستون سنة على استقلال البلاد التونسية من الاستعمار الفرنسي واسترداد التونسيين حكم بلدهم بأنفسهم وتونس تجابه أدق مراحل تاريخها الحديث.

فكيف لنا أن نقرأ لحظة تمتزج فيها معاني التاريخ العميق والتاريخ القريب مع تحديات الراهن وارتسامات المستقبل بكل تركيباته وتعقيداته؟

قامت دولة الاستقلال الوطنية على مرجعية ثنائية يمتزج فيها التأكيد على الانتماء العميق لكل روافد التونسة ومحددات خصوصيتها والاعتزاز بها من ناحية وانخراط لا لُبس فيه في مسار الحداثة الكوني في بعده الإنساني التنويري من ناحية أخرى.

دولة الاستقلال سليلة ديدون ويوغرطة وحنبعل وجوبا وهيملكون وسيبريان وسانت أوقستان وكاتون وماغون والكاهنة وعقبة وابن رشيق وفاطمة الفهرية والإمام سحنون وابن خلدون والمعز لدين الله ومحرز بن خلف وعلي بن غذاهم وخير الدين والدغباجي والثعالبي والطاهر بن عاشور...

وقد قامت على اختزال كل هذه المكونات في ذكاء قائم على الانصهار والتّوق إلى اصطفاء التونسة من كل ذلك الزخم وكانت وجوه حديثة من أمثال علي البلهوان والحبيب بورقيبة ومحمد علي الحامي وصالح بن يوسف وفرحات حشاد وحسن السعداوي وسليمان بن سليمان في الحقل السياسي والنقابي والحداد والشابي والدوعاجي والترنان والعفريت وصليحة ومسيكة وخريّف في الحقل ا

اشترك في النسخة الرقمية للمغرب ابتداء من 25 د

لأدبي والثقافي دليلا على قيام خصوصية تونسية متنوعة ومتأصلة وحديثة.

 ولقد كان خيار الطليعة الأولى التي أسست وقادت هذه الدولة ملتفتا إلى إرادة بناء دولة حديثة حريصة على النهوض بشعب أضناه الاستعمار والحيف ونخرته النزعات العروشية والقبلية والجهوية.

كانت رجالات أمثال بورقيبة والمهيري وسليم والمسعدي والمستيري وغيرهم قد انتهجت النهج التحرري الذي نعرف من سن لمجلة الأحوال الشخصية وتعميم للتعليم المجاني والصحة العمومية واعتماد التنظيم العائلي ووضع لاقتصاد حديث الغيت منه الأحباس والملكية القبلية مما أفرز مجتمعا مستنيرا ومتحررا تواقا لبناء مواطنة حقيقية تُستكمل بحق المشاركة السياسية.

إلا أن القائمين عليها اعتبروا أن ذلك ليس ضمن «عقد الرفاه الاجتماعي» الذي التزمت بتوفيره الدولة فكان الحزب الواحد والزعيم الواحد والرئاسة مدى الحياة إلى أن تكلست الدولة أكثر أواخر ثمانينات القرن الماضي بأن انضاف إلى مجمل ذلك تفرس اقتصادي شرس وانتشار فساد ومحسوبية غير مسبوقة وتعذيب ممنهج. فكانت الثورة!

من منظار دولة الاستقلال الثورة ليست مطلبا لإعمال نظرية المنضدة الشاغرة بقدر ما كانت مطلبا لاستكمال ما تلكأت في توفيره الجمهورية الأولى من سد للهوة بين الجهات والفئات واعتماد جباية عادلة في جمعها ذكية في توزيعها ومشاركة سياسية مضمونة ومتساوية للجميع واحترام لكرامة كل فرد في هذه البلاد.

تبدو تونس اليوم الدولة القومية Etat nation الوحيدة في محيطها العربي وهي المؤهلة والمبوّأة للذّهاب بعيدا في هذا الاتجاه من تأسيس لدولة تُحترم فيها حقوق الإنسان ويُتداول فيها سلميا على السلطة وتُفعّل فيها حقيقة مقومات الدولة المدنية.

ترنو الجمهورية الثانية كيفما سطرها دستور 2014 إلى ذلك فهي الشكل الذي في تواصل مع العمق التاريخي للدولة التونسية ارتآه التونسيون لدخول القرن الحادي والعشرين ممكنين دولة الاستقلال من تحقيق كل أهدافها خاصة تلك التي أدارت الجمهورية الأولى عنها وجهها.

أن أهداف كهذه لا يريد لها الجميع أن تتحقق فزمرة من بين من نتقاسم معهم المواطنة ومن ورائهم جهات وعواصم يعنيها أن لا يقوم هكذا منوال وأن تنجح بلورة مواطنة حقيقية في بلد عربي.

تلك هي الدوافع التاريخية والجغراسياسية لمن يغتالون زعمائنا وجنودنا ويهاجمون متاحفنا وثكناتنا ونزلنا ومقراتنا الأمنية.

إنّ الحرب التي نخوض على الإرهاب مكسوبة لا محالة فلم نر إرهابيين تغلبوا على أمة متماسكة ولا على دولة منظمة. لا خوف على الدولة التونسية فأصلها ثابت وفرعها في السماء.

على دولة الاستقلال التي استحالت اليوم ديمقراطية أن تبيّن أنها ستكسب هذه الحرب دون أن تتزحزح عن مبادئها من احترام لكرامة الناس (كل الناس) وامتثال لمقتضيات دولة القانون والتمسك بمقاومة الفساد.

هكذا فقط نكون أوفياء لمن سقطوا لكي تستقل تونس وأوفياء لمن سقطوا كي تصبح تونس المستقلة دولة ديمقراطية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115