العرض الأوّل لـمسرحية «أنتيقون الخالدة» بفضاء التياترو: هل تقوى المعارضة على الصمود في وجه السلطة؟

هي عودة إلى الكلاسيكيات المسرحية ولكن بروح عصرية، وهو رجوع إلى التراجيديات اليونانية

ولكن بنزوع إلى التجديد في المبنى والمعنى... وهكذا جاءت مسرحية «أنتيقون الخالدة» متأرجحة بين الأسطورة والواقع، ما بين الحقيقة والخيال... وهي التي تربّعت على عرش الفن الرابع كواحدة من أشهر أمهات المسرح محيّرة الأركاح ومستفزة للمخرجين والنقاد.
ولعله ما دفع بالمخرجة خولة الهادف وفضاء التياترو إلى طرح السؤال عن مصير أحلام «أنتيقون» قبل وبعد «الربيع العربي» ومآلات نضالها في ظلّ ما يسمّى بـ»التحول الديمقراطي» !
عن مسرحيات سوفكليس وبريشت وآنوي وكتابات أخرى... تتجلى لنا «أنيقون الخالدة» في ثوب جديد من حياكة المخرجة خولة الهادف وإنتاج التياترو والتياتر ستوديو وجمعية زنوبيا... وعلى الركح ، يلعب أدوار هذا العمل كل من محمد الزرامي وإيمان بن عمر وهاجر زايدي وفرح الموخر وعزة الموخر وأحمد عليوين وأميرة العريفي وأمينة البديري وسفيان بوعجيلة وأمان الله أوكاجا مع مشاركة لطيفة من الأطفال فاطمة مغيربي ومايا مجاجي وسليم الغزواني.

«أنيقون الخالدة « الأمس واليوم وغدا
أبدا ليست «أنتيقون» وهي التي تحمل في جينات اسمها المعارضة والتمرد مجرد شخصية أسطورية عانقت أبعاد البطولة التراجيدية وسجلت حضورها في الكلاسيكيات المسرحية بل هي رمز الثورة الخالدة على مرّ الأزمان وتتالي العصور. ليست «أنتيقون» مجرّد فتاة ذات قوة وصلابة في الشخصية وشجاعة وثبات في الموقف وهي التي تحدّت خالها الملك «كريون» ورفضت الرضوخ لأمره في ترك جثة أخيها في العراء بل هي صوت المعارضة بكل وجوهها ضد الظلم في كل تجلياته... ولهذا لم نكن أمام مسرحية «أنتيقون الخالدة» لخولة الهادف بحاجة للتساؤلأين يقف الماضي ويبدأ الحاضر وعن جدوى الاشتغال على نص يعود إلى قرون وسبق له أن اعتلى مسارح وأركاح بل كان كل همّنا هو مطاردة شيء من خوفنا وهواجسنا،أملنا وحلمنا، ثورتنا وخيبتنا... على ذلك الركح وفي تلك الحركات المتمردة والوجوه الحائرة والنبرات المنكسرة.

لقد استفزت فينا «أنتيقون الخالدة» الذوات المستلسمة لقدرها المحتوم ورّجت فينا السواكن وزلزلت فينا الثوابت...فوضعتنا في مواجهة قاسية مع أنفسنا كما هو شأن تلك المواجهة الساخنة بين أنيقون وخالها الملك كريون.
وما بين ملك يحتمي بالقانون للتنكيل بجثة «معارض حمل السلاح» وأخت تدافع عن حرمة جسد أخيها الميت، اضمحلت الأطر التاريخية للمسرحية لتبدو وكأنها أيقونة خالدة صالحة لكل زمان ومكان طالما أنه يولد في كل عصر وأوان إنسان يحمل لواء ثورة «أنيقون» وتكون حياته فداء للعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

نص كلاسيكي ... طرح معاصر
ركح بسيط وشبه ثابت تخلّى عن الثرثرة والبذخ... إضاءة تختال اللحظة القاتمة حينا وتتبدد حلكتها في لحظة صفاء، في الزاوية اليسرى أريكة الملك الوثيرة التي قد يحيل لونها الأحمر إلى الغضب والدم والموت، وفي الجهة المقابلة احتل فريق الملك المكان في تجسّس على الهواتف وتعقّب للأخبار... وعلى شاكلة «فريق المخابرات» كانت التقارير تصل إلى الملك لحظة تلو لحظة وهو الساهر على أمر البلاد والعباد من على مجلسه الوثير ومن وراء آذانه وعيونه التي لا تنام!

وإن حافظت شخصيات المسرحية على أسمائها التاريخية كما في النص الأصلي، فإن ذلك لم يمنع المخرجة من جعل أبطالها يلبسون أزياء هذا العصر ويتحدّثون بخطاب يشبهنا، منّا وإلينا... فإذا بالملك «كريون» يعارض بشدة أن تشق له امرأة عصا الطاعة وتتمرّد على عرشه وجبروته فإذا به يقول مستهزئا:»ما هي إلاّ مرا» !
لعل من نقاط قوة مسرحية «أنتيقون الخالدة» هو مشاركة الأطفال في العمل كمشاهد مصغرة عن ركح الأبطال «الكبار» وكأن بالنضال استمرار بين الأجيال وأنتيقون الكبيرة وإن تواجه مصير الموت المحتوم ستكون خليفتها أنتيقون الصغيرة لتحمل عنها مشعل الثورة والحرية.
من بين ثنايا الأسطورة والملحمة في مسرحية «أنتيقون الخالدة»، تلوح لنا من هنا وهناك ومضات عن تونس الآن وهنا وشذرات عن شواغل وهواجس الشارع التونسي.

الثورة حيّة وأنتيقون لن تموت
في فلك الصراع الأزلي بين ثنائية الخير والشر تدور قضايا مسرحية «أنيقون الخالدة» لتضع على محك النقد التضاد بين الشخصيات والمواقف ووجهات النظر... فمتى كان قبول الاختلاف سادت الديمقراطية ومتى كان القمع والتنكيل مصير المعارضة تغوّلت الديكتاتورية. وإن كانت ثنائية الصراع الكبرى هي بين الملك «كريون» و»أنتيقون» بما هي عقدة الأحداث التي تتأجج شيئا فشيئا إلى حد الموت والفناء، فإن ذلك لم يمنع من انفجار ثنائيات أخرى متضادة ومتقابلة على الركح لعلّ أبرزها تعارض شخصية «إيسمان» بما هي عنوان الاستسلام والخوف والخضوع مع شخصية أختها «أنتيقون» المتمردة والثائرة و»الخارجة عن القانون»... كما يلوح في نهاية المسرحية صراع آخر بين الملك «كريون» وابنه «إيمون» بسبب حكمة بالموت على خطيبته أنتيقون.

على مستوى توزيع الأدوار حاولت جلّ شخصيات المسرحية تقمص الدور وإقناع الجمهور ولكن يبقى التميز للممثل محمد الزرامي في شخصية الملك «كريون» الذي أجاد اللعب بنبرات الصوت وإيماءات الوجه وتعبيرات الجسد من مشهد إلى مشهد ومن موقف إلى آخر مستحوذا على إعجاب المتابعين واهتمام المتفرجين...فكان له أسلوبه الخاص والممتع الذي وشى بموهبة كبيرة تجاوزت حدود النجاح لتلامس سماء الإبداع . ولم يكن من الصعب الجزم بأن هذا الممثل هو تلميذ الفنان الكبير توفيق الجبالي في مدرسة «التياترو» وقد أخذ شيئا من روحه ومرحه...
وإن انتهت الملحمة بموت البطلة التراجيدية «أنتيقون» فلاشك أن أخواتها سيلدن ويكبرن مع ميلاد كل فجر جديد ليبقى صوت المرأة حرا وصوت الثورة حيا ما بقيت على هذه الأرض حياة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115