مسرحية «انتلجنسيا» لنزار السعيدي: «الكلاب تنبح والقافلة حابسة»

الانعاش وضعية فاصلة بين الحياه والموت، ماذا لو تحوّل الانعاش الى حالة جماعية تسلط على بلد ما فتفرض على الفرد مواجهة الحقيقة

والبحث عن حلول انقاذ للمجموعة او تكليف نخبة لتقديم طوق النجاة . فتطرح اشكالية من هي هذه النخبة ؟ كيف ستلعب دور المنقذ؟ هل حلولها ناجعة ام هي مجرد نظريات للحفاظ على الصورة امام المجموعة وتمسّك بالتكليف؟ هل للمجموعة الحق في تغيير نخبتها المنقذة ان فشلت في مهمّتها، اوصارت تابعة لها تقرر مصيرها ؟ هل النخبة تصنع المجموعة او العكس هكذا تساءل نزار السعيدي في عمله الاخير «انتلجنسيا» .

«انتلجنسيا» عمل يبحث عن ماهية المثقف، عن الوطن الضائع عن الشخصية السياسية المرتبكة، يحلل الواقع ويحاول كشف ادارته واسراره، مسرحية «قاسية» و تثير اسلة موجعة جسدها كل من امال الكراي و فاطمة عبادة و انتصار عويساوي وجمال ساسي وعلاء الدين شويرف دراماتوجيا و اخراج نزار السعيدي عن نص لعبد الوهاب الملوح.

«البلاد كما السبيطار مليانة وجيعة»
السؤال موجع، الوطن موجع، الحب موجع ـ، النضال موجع، البحث عن الذات وسط تراكمات الماضي والحاضر موجعة أيضا السؤال عن الانا والاخر يقلق ويرهق الروح والجسد البحث عن تفاصيل الوطن وبعض تقاسيمه تقلق الانا والاخر، الجري وراء الشعارات والهتافات يصم الاذان ومحاولة تطبيق النظريات يقصم الظهر ويكسر القلب، هكذا هو الوطن سؤال تطلقه اصوات ضائعة وحناجر مجروحة ووسط كومة من الظلام والوجيعة صرخ الممثلون عاليا حاولوا أن يكونوا صوت الواقع والحرية ويكشفوا ما نعيشه من سأم فى عمل «انتلجنسيا».
ظلام يسود المكان، صراخ امرأة في أقصى المكان تطلب من أحدهم ترك حقيبتها، صوت لصفارة يصمّ الاذان، او هو صوت لتوقّف قلب احدهم عن العمل ودخوله في سبات، مكان الاحداث «المستشفى» والسبب تواجد عائلات احد المرضى الذي شرب «ماء الجافال» محاولا الانتحار ولكن بسبب خطإ طبي احيل الى الانعاش وفي بهو المشفى تجتمع العائلة المصغرة وفي كل لقاءاتهم يكون الحديث عن النضال والوطن.
في المسرحية حديث عن بؤس المستشفيات العمومية، عن الصفقات المشبوهة عن الأخطاء الطبية عن الحياة والموت وتشبيه للوطن بـ «السبيطار مليان وجيعة» اذا اردت الشفاء فالتزم الصمت.

هم «نحن»...ونحن في ضياع دائم
هم مجموعة من الشخوص اختلفت انتماءاتهم الفكرية في الراهن ولكن جمعتهم نضالات الماضي، الاب (جمال ساسي) دكتور ويبحث عن منصب عميد يساري سابق وبعد الثورة اصبح مهادنا يبحث عن منصب سياسي والعمل النقابي مطيته الى ذلك.
الام (انتصار عويساوي) مناضلة حقوقية و ناشطة في المجتمع المدني افتكت حقوق المظلومين وعجزت عن افتكاك حق ابنها في الحياة ومصلحته أمام خطإ طبي قاتل.
العمة (امال الكراي) مناضلة يسارية تربت على قيم «الانسان كينونة لا تتجزأ» عاشت على وقع كلمات الحرية والإرادة والاختيار وحيت اختارت رفيقها ليكون حبيبها صدمت بمقولة «المرا شرف» فتركت الوطن وهاجرت.
ورابعهم الممرض صلاح (علاء الدين شويرف) هو محرك الأحداث لأنه عين الادارة وأذن النقابة وهاتف للوزارة، اربعتهم اجتمعوا في مربع ضيق لكل منهم هدف ومصلحته الخاصة في الظاهر اشتركوا في محاولة انقاذ «مجد» اما الباطن فلكل منهم هدف يريد الوصول اليه، الاب يريد ان يصبح «عميدا» بعد سنوات نضال خسر فيها الكثير فاختار ان يكون مهادنا، الام هدفها مزيد الظهور في كل الوسائل الاعلامية والدفاع عن حقوق الاخرين، العمة تبحث عن خيط لمعرفة اسباب خطابات الجامعة والنقاشات غير الواقعية اما الممرض فهدفه حماية «عرفه» مدير المشفى بعد خطإ طبي كاد ان يقتل المريض، اربعتهم في مربع ضيق تناقشوا حد الصراع، صرخوا حد الوهن ليكشفوا الكثير من البؤس الذي نعيش داخله وكشفوا عن ثقل معاناة المواطن في مستشفيات هذا الوطن بتعلة «خطإ طبي» قد يصلح وقد تضيع الروح البشرية نتيجته، وفي كلتا الحالتين يكون الضياع نصيب من يحاول الفهم.

بين الموت والدم ...هل ينهض هذا الوطن من وجيعته؟
«انتلجنسيا» عمل نقدي موجع يحاول ان يحلل شخصية ومواقف النخبة المثقفة، يحاول الدخول الى جزئيات من نراهم في التلفاز ومن يتصدرون الصحف والمناصب العليا، عمل يغوص في الخطابات الجوفاء التي نسمعها من النقابيين في حين انهم لا يطبقونها في حياتهم الخاصة فهم يتحدثون عن المساواة بين الجنسين وهم اكثر من يقزّم المرأة في اسرهم يتحدثون عن «الصلاة بالحاضر» وهم يبيعون ويشترون دماء المرضى مقابل رضاء المدير، تحليل لمن ينشرون ثقافة التمرد والحرية وحرية الاختيار وهم جد رجعيين في حياتهم الخاصة، في انتلجنسيا الكثير من الاسئلة الموجعة عن ازدواجسة من يحكمون الوطن وازدواجية قرارات من يحتلون مناصب سيادية فان كانت النخبة بهذا السواد فكيف بالعامة.
في المسرحية غاب الديكور وكانت اجساد الممثلين هي البديل، الجميع اشترك في الماكياج الاسود واحمر شفاه اسود وللأسود رمزية ترتبط بالخوف والحزن والظلام والدهشة والرعب والمكر والخبث والشرف والجريمة واليأس وبصفة عامة فإن الأسود هو العزاء والحزن والفزع وفي العمل الكثير من الفزع والخوف، خوف على الوطن ممن يحكمونه خوف على الحرية من اصحاب الشعارات، خوف على العمل النقابي من الانتهازيين وخوف على حياة الانسان من المتهاونين، الماكياج الاسود شوّه الوجوه تماما كتشوّه الوطن من كثرة الفساد.
مع الاسود هنا الاحمر وهو من الألوان الساخنة لذا فهو لون مثير له خواصه العدوانية فهو مرتبط بالعنف والاستفزاز والإثارة، وهو يعبر عن النار والدم ويعبر أيضا عن الحقد، الاحمر المستفز لون الدم والعدم نجده في العمل في جوارب الممثلات في اشارة الى انتشار الدم وربما ضياعه دون معرفة القاتل وفي المسرحية يلبسه «الممرض».
لون آخر استعمله المخرج نزار السعيدي في عمله الجديد، هو اللون الرمادي وهو أقل شدة من اللون الأسود ويوحى بالبرودة ويرمز إلى والخضوع ويبعث أحيانا على الكآبة والحزن والأنقباض والتصميم والعزم والرصانة والشيخوخة ، كلا الممثلتين لبستا الرمادي، في اشارة الى استسلامهما امام ظهور جيل جديد له مواقفه وأفكاره المختلفة عنهما.
«انتلجنسيا» مسرحية تبحث عن التشوّه فينا تحاول تفكيك شخصية المثقف واعادة تركيبها عمل يكشف الاقنعة المزيفة ويعرّي حقيقة أصحاب المناصب العليا عمل يسأل عن ماهية الوطن ويكشف اننا نعيش حالة انعاش فهل سيتجيب المواطن التونسي للدواء وينهض لحماية وطنه أم أن جسده سيعجز عن المقاومة؟.

آمال الكراي تعود الى الخشبة
استاذة مسرح، امرأة حقوقية ونقابية ومناضلة شرسة يصفها اصدقاؤها بالعنيدة، هي امال الكراي استاذة المسرح التي عادت وبعد غياب سنوات الى الخشبة، في «انتلجنسيا» كشفت امال الكراي انها ممثلة «غولة» لها قدرة على الإقناع فحركتها خفيفة ولم ينقص بعدها عن الركح من قيمتها الفنية والابداعية.

علاء الدين شويرف مبدع استثنائي
يضحك المشاهد ويبكيه له قدرة غريبة على التعامل مع الدور، في «انتلجنسيا» كان اختياره موفقا من المخرج، علاء الدين الشويرف كان رمز قوة في العمل وشخصية الممرض ذي الوجوه العديدة ابدع في تجسيدها ونجح في كسب الرهان.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115