حديث الأنا: في حرّ الصيف والريح الشهيلي IX - في عرس ابن المرحوم سامي

الحياة في مثل هذا الحرّ لا تطاق. أصبح العيش في تونس عسرا، جحيما. ليس هو بعيش بل هو العذاب. يجب أن أرحل عن هذه الأرض. يجب أن يرحل عنها ابناي. لست مطالبا بالحياة في مثل هذه الفيافي. لست مجبرا على العيش في مثل هذا الطابون... تونس بلدي. هي وطني، أقول في نفسي، يقول الناس حولي. لكن، هل كتب عليّ أن أحيا في بلدي؟ هل حرّم على الانسان تغيير الأوطان؟

أنا لست شجرة، ان اقتلعت جذورها هلكت. أنا كائن حيّ. أنا كائن حركة. الأرض جميعا وطني ولا فرق عندي بين الأوطان. حيث ألقى الحياة أحيا. حيث ألقى مرحي ومقاصدي أحطّ رحالي. العالم وطني وفي العالم ألقى أخي الانسان. أتقاسم واياه الفكر والماء والنار. ما كان الوطن أرضا ومكانا. الوطن أوّلا فكر وقيم ومقاصد. أمّا مسقط رأسك وحيث ولدت ويوم تبعث... فهذا كلام يقوله الكبار للصغار. لا معنى فيه ولا غايات. هو دعوة للعدم، للسكون... الحياة حركة. الحياة تكون حين تمشي في الأرض بلا قيد، حيث تشاء. أن تحيا كما شئت وحيث شئت لا كما شاءت الصدف والأقدار. الانسان هو أساسا ترحال... 

يجب أن ننتهي من فكرة الأوطان، من حدود المكان. على الغرب أن ينزع الحواجز ويرفع الخرائط. علينا أن نفتح الأبواب لكل من هبّ وأراد العيش بيننا، في كلّ مكان. تونس ليست للتونسيين بل هي لكلّ العباد. أنا لست تونسيّا. أنا إنسان. العالم قدري. العالم وطني ووطن الناس جميعا، من ذكر وأنثى، من كلّ الألوان، من كلّ الأديان... على الفلسطينيين واليهود أن يفتحوا الأبواب وأن يحيا كلّ حيث شاء، في القدس، في غزّة أو في أيّ مكان. ليست القدس حكرا على أحد. ليست مكّة حكرا على أحد. ليست باريس حكرا على أحد. على الدول أن تدرك أنّ الأرض جميعا، جنوبا وشمالا، ملك للإنسان... مازلنا في تونس نعيش وراء الحدود والحواجز. مازلنا نحيا في زمن العروش والقبائل. مازالت الجهات عندنا منفصلة عن الجهات. هذا جنوب يرفض الشمال وهذا ساحل يعرض ظهره عن أهل الجبال. الكلّ حاقد على الكلّ. الكلّ في غيض يسعى إلى فسخ الآخر، إلى الايقاع بالآخر. تونس مازالت جهويّات. هي أفراد وفئات. لم يدخل التونسيون عالم الانسان...
  
إضافة الى ما في الحرارة من خنق ومن عذاب، في الصيف، يكثر الضجيج في البلاد. تعمّ الضوضاء. في كلّ حيّ هناك طبل ومزمار ومصادح. في كلّ زقاق، حتّى الصباح، هناك صخب وصراخ. هذا نجحت ابنته في الامتحان وهذا يعقد قرانا والآخر أتمّ بناء يدخله بالذكر وبالابتهالات. في الصيف، يضيع الرشد وتضعف بصائر الناس. الكلّ في قعود، يتلهّى، يقتل الساعات، يصارع ما اشتعل في الأرض من لهيب نار. الكلّ يجتهد، يختلق فرصا تفرّج عن الأرواح. هي الشمس أفقدت الناس الصواب. هو الحرّ يدفع بالناس الى الصخب، الى العياط. يشدّ الصراخ الناس ترويحا عن الذات...
  
مات سامي منذ ستّة أشهر. ها هو ابنه الأوحد يتزوّج ويعمل في القرية حفلا صاخبا فيه طبل ومزمار. يجب اشهار الزواج. يجب إذاعة الخبر بين الناس حتّى يعلم الناس علاقات النكاح وحتّى لا يحصل في الأرض فساد... يجب أن أحضر عرس ابن سامي وسامي هو الأصغر في إخوتي وأخواتي. مات أخي سامي منذ أشهر معدودات. خطفت المنيّة سامي وكان في أوج العمر. لقي حتفه إثر مرض ماكر، عضال. كان سامي طريفا. له نكتة ونشاط. بكيت سامي مرّات. أبكيه كلّما مرّ وجهه بخيالي. لا أدري لماذا أصبحت كثير البكاء. في ما مضى، كنت عصيّ الدمع. لا يرقّ لي قلب ولا أعرف بكاء. مع السنين، مع موت أمّي، مع موت سامي، مع ما كان من سرطان، كثر بكائي. تنهمر دموعي بلا سبب، بلا داع...
يجب أن أحضر عرس ابن سامي. تهيّأت للحدث منذ أيّام. هذه العشيّة، يجب أن أذهب وزوجتي إلى القرية. يجب أن أحضر عرس ابن سامي. اغتسلت. حلقت لحيتي. نظّمت شعري. تعطّرت. لبست قميصا وجبّة بيضاء وحذاء وجوارب بيضاء. في الأعراس والمناسبات، اللون الأبيض هو المفضّل عند الناس. ها أنا ألبس كما يريد الناس. البياض صفاء وتقوى. ها أنا في بياض تامّ، من الرأس وقد اشتعل شيبا إلى الحذاء. نظرت في المرآة، من فوق ومن أسفل. أنا حقّا جميل، لي وقار وبهاء. للجبّة لمن كان مكتمل الجسم حضور وأناقة. كلّما لبست جبّتي البيضاء، أرى الناس من رجال ونساء ينظرون إليّ، يصلّون على محمّد أخر الأنبياء. أنا لست كبوك عليّ...
كان بوك عليّ، صاحبي، قصير القامة، نحيل الجسم كأنّه مسمار. لمّا يلبس الجبّة تراه يتعثّر، يمشي في عسر. لا يستقرّ له لباس. تهتزّ جبّته يمينا وشمالا. في جهد، يسوّي الجبّة مرّة بل مرّات وتراه في صراع. لمّا أراه، أمشي الى جانبه. أقف حذوه حتّى يرى الناس الفرق بيني وبينه ويدركوا ما لي من أناقة وكمال. أمّا صاحبنا صلاح فكان يقول لمن أراد سماعه «الخمس والخميس» على صاحبي المزيان. وبينما كنت في غبطة أرى بوك عليّ في بعض غيض، يسوّي ما كان له من جبّة هوجاء. الكلّ يعلم أن الجبّة جعلت لمن كان له قدّ وكمال ولكن بوك علي رغم ما كان من له قصر ونحالة يريد أن يرتدي الجبّة في الأعراس وفي المناسبات. تلك عادة عند قدماء الوزراء... مع الرئيس بن علي، أصبح لباس الجبّة التقليديّة ضرورة من ضروريّات الحكم. كان وقتها بوك علي وزيرا يحضر المواكب في قصر قرطاج. اشترى مضطرّا جبّة مزركشة، بثمن عال. كان يلبسها كلّما دعي لقرطاج. انتهى بن علي ووزراؤه منذ زمان وحتّى لا يأكل السوس ما اشترى من جبّة غاليّة الأثمان، كان بوك عليّ يلبسها في المناسبات وفي غير المناسبات...
  
نظرت في المرآة. ما أجملني وما أجمل الجبّة عليّ. ها أنا كشجرة سرو قائمة، بيضاء. لي حقّا هيبة ووقار. كنت في نرجسيّة، أنظر وأعيد النظر لمّا دعتني زوجتي إلى غلق النوافذ والأبواب وهذه البلاد، منذ الثورة، غدت سائبة بلا أمن وفيها لصوصيّة عامّة، عمياء. أغلقت المنافذ كلّها بعديد الأقفال ثمّ استقمت في مشيتي وتوكّلنا على الله، نسافر إلى منزل كامل. ها نحن أمام قاعة الأفراح. ها أنا أرتّب جبّتي. أسوّي شعري. أدخل قاعة الأفراح وقد امتلأت بشرا من رجال ونساء. كنت أمشي مستقيما كأنّي وليّ صالح قادم من غابر الزمان، كأنّي خارج من صحف صفراء. ها أنا هنا أزيّن عرس ابن سامي. ها أنا هنا أنوب سامي...
امتلأت قاعة الأفراح بشرا وضوضاء. أضواء ساطعة. حرارة عاديّة. القاعة غير مكيّفة بما يكفي. ألوان في السقف بائسة. فرقة موسيقيّة في المنصّة تأتي ألحانا شعبيّة، صاخبة. هذا أخي الأكبر وأخي الأوسط في ركن جالسان. ها أنا في القاعة. أحيّي الناس. الكثير من الناس لا أعرفه. أقبّل بعض النسوة والعجائز. لا أتبيّن الوجوه. نسيت الأسماء. أنا ضائع في قاعة الأفراح. لا أفهم شيئا كثيرا. أترك زوجتي تتدبّر مكانا وأمشي الى حيث إخوتي. أحتمي بهما. أجلس إليهما. أتذكّر وإيّاهما ما كان في أوّل الزمان. نقول تفاهات. تشدّنا لوعة أمّي وحرقة سامي... لا يمكن الكلام إلا حين تتوقّف الفرقة عن الأداء. نفرح لمّا تتوقّف الفرقة عن الغناء. ليس هو بالغناء بل هو ضجيج، قرع للطبول والأدوات يصدّع الرؤوس ويقطع الأصوات. غريب أمر الأعراس في هذا البلد. ننفق الأموال بلا حساب، نقترض لنفعل ضوضاء ونسعد بما أتينا من غوغاء، من هزّان ونفضان...
أنسى الصخب العارم حولي. أنظر في الناس الحاضرين أمامي. أتصفّح الوجوه وما تحمله الوجوه من ملمح ومن علامة. في الأعراس، ترى وجوها من كلّ الأشكال، ترى بشرا من كلّ الأنماط. تشدّك فورا المتناقضات. في الأعراس، تحضر كلّ الشرائح. العرس هو اجتماع شعبيّ عامّ. أنظر. أتبيّن. أرى ما يحمله الناس من لباس، من علامات، من سلوكيّات. لست بعالم اجتماع ولكن لمّا أنظر،

أرى ما في المجتمع من تضاريس، من اشكاليّات، من خصوصيّات... في الأعراس، يحضر الأهل والأصحاب وغير الأهل وغير الأصحاب. تأتي النسوة والرجال والكبار والصغار من الأغنياء ومن الفقراء. تمتلئ القاعة بكلّ الأنماط. بمن كان في القرية يحيا وبمن كان مهاجرا، في الصيف عاد. بمن كان ذو ورع وتقوى والآخر الشيطان والسكران. الكلّ مع الكلّ يلتقي في قاعة الأفراح. في أبهى حلّة، في انشراح، يتحدّثون، يرقصون، يتدافعون، يتشاجرون، يقولون أشياء وأشياء...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115