وجيهة الجندوبي على ركح مهرجان بن عروس الصيفي : «العفشة مون أمور» تحلم بوطن أجمل ...

هل يمكن أن يلتقي القبح والجمال؟ وهل يكون القبح قادحا للحب؟ وهل تستوي الدمامة مع البهاء في زمن ما تحت سماء ما؟ هكذا أرادت أن تكون «العفشة مون أمور».


بعد 5 سنوات من الجولات بين المسارح التونسية أمام شبابيك مغلقة من شمال تونس إلى جنوبها، لا يزال عرض «العفشة مون أمور» للمخرج شاذلي العرفاوي والممثلة وجيهة الجندوبي مطلوبا في المهرجانات ومرغوبا من الجمهور الذي يتوافد في كل مرة بأعداد غفيرة لملاقاة «العفشة».
كان الموعد في سهرة الجمعة 14 جويلية 2017 مع عرض «العشفة مون أمور» ضمن سهرات مهرجان بن عروس الصيفي الذي يتواصل إلى غاية 20 جويلية الجاري تحت شعار «الصغير ...يكبر !».

قبح وحب
رفع الستار على مشهد البداية ليظهر طيف يصارع لحافه الأبيض ويتوه في ثنايا هذا الرداء الذي يغطيه من أعلى رأسه إلى أخمس قدميه... وبعد أن يسقط اللحاف، تتجلى صورة ذلك الطيف التي لم تكن سوى شخصية «كاريكاتورية» تلبس ثوبا نسائيا ويغطي رأسها ووجهها شعر كثيف وقبيح... وشيئا فشيئا ينكشف سر الحكاية على لسان هذه المرأة «الغريبة» وهي تروي حكاية تحولها من امرأة عادية إلى «عفشة» بسبب الظهور المفاجئ لشعر كثيف غطى كامل وجهها وعبث بأنوثتها...

بعد هذا التحول السلبي في حياة شخصية المسرحية تنطلق رحلة البحث عن علاج وعن حلّ لهذا المأزق بعد أن أخبرها الأطباء بأن ما أصابها ناتج عن اختلال هرموني بسبب التحولات العاصفة التي شهدتها البلاد ما بعد الثورة.

وما بين عيادات الأطباء والتفسيرات العلمية وبين متاهات «الرعوانيات» والخرافات الاجتماعية تتبعثر جهود «العشفة» في اللهث وراء طريق الشفاء من الداء الذي أقض مضجعها وأربك حياتها ...

وبالرغم من القبح فإن الجمال لم يغب عن مشاهد المسرحية انطلاقا من العنوان «العفشة مون أمور» الذي جمع في حد ذاته مفارقة القبح والحب، وعلى الخشبة تراقصت الأضداد وتصادمت التناقضات بين الموجود والمنشود، الواقع والحلم، الموت والحياة...

وطن ينهشه الطامعون
لم يكن القبح في مسرحية «العفشة مون أمور» مجرد عيب شكلي سواء كان ظرفيا أم مزمنا بل هو قادح لتوليد المشاهد والتعريج على الظواهر الاجتماعية التي اكتسحت المجتمع التونسي خصوصا ما بعد الثورة. فكأنا بالدمامة التي عبثت بجمال وجه الشخصية هي إشارة ترمز إلى البشاعة التي أضحت عليها البلاد بعد أن غزتها سلوكيات غريبة وأفكار هجينة لا تمت بصلة إلى عاداتنا وثقافتنا وحضارتنا...

على مسرح «العفشة مون أمور» وجهت وجيهة الجندوبي سهام النقد إلى من سرقوا أحلام الثورة، وانتحلوا الأقنعة والخطابات المزدوجة، وتاجروا بأحلام البسطاء والفقراء، ولهفوا ثروات الوطن... وفي قفص الاتهام، زجت المسرحية بكل مكونات المجتمع المدني التي تتشدق بالشعارات الزائفة وتلهث وراء الصور والصدى على حساب آلام المعطلين والكادحين والمهمشين، وبكل الأحزاب السياسية في الحكم والمعارضة التي تسيل لعابها هالة المناصب والكراسي وتدير ظهرها لمطالب الشعب ونداء البلد...

في تنقل بين المشاهد المتنوعة والوضعيات الساخرة تقدم وجيهة الجندوبي نماذج عديدة من المجتمع التونسي كثيرا ما يجمع بينها بؤس العيش وضياع البوصلة وحيرة الحياة في وطن يخونه المسؤولون ويخترقه الانتهازيون ويتربص به الطامعون...

مسرحية ساخرة...كوميديا سوداء
بعد مرور 5 سنوات من العرض، اختار كل من المخرج شاذلي العرفاوي والممثلة وجيهة الجندوبي الإبقاء على مضمون «العفشة مون أمور» كما عرفه الجمهور في عروضه. ونظرا لأن ولادة المسرحية كانت بعد حوالي عام من اندلاع شرارة الثورة التونسية فقد تناولت قضايا البلد في تلك الفترة بالذات وشواغل المواطنين في ذلك الظرف بالخصوص على غرار جدل ختان الإناث بعد زيارة «وجدي غنيم» لتونس وتنامي التيار السلفي وصعود حزب إسلامي إلى سدة الحكم ... ولكن هذا لم يمنع الجمهور من التسمر أمام مشاهد هذه المسرحية «الهزلية الهادفة» والتفاعل بالضحكات والتنهدات مع مشاهد المسرحية التي تتالت في تناسق في قالب طابع فكاهي ومواقف كوميدية ناقدة وساخرة ومستفزة للسواكن أمام الأسئلة الحارقة الباحثة عن أجوبة مفقودة !

وقد برعت وجيهة الجندوبي على الركح في شد الانتباه وحشد الاهتمام والتشويق بفضل ما تتمتّع به من شخصية كوميدية و قدرات تمثيلية منحتها جواز عبور نحو قلوب الجمهور في زمن الافتقاد إلى الفنانين الكوميديين وفن الكوميديا.

يزول الداء والخلود لتونس
في «العفشة مون أمور» تجلت الثنائيات عن الخضوع والثورة، الألم والأمل، الكابوس والحلم ... طالما أن موضوعها هو الوطن المغدور، والثورات المسلوبة، والأصوات المقموعة، والمطالب المعلقة ...

وعلى الركح جسدت وجيهة الجندوبي مأساة البلاد والعباد على الخشبة ولكنها من رحم المعاناة كانت تبعث برسائل إيجابية وتدعو للأمل والحلم بعالم المساواة، عالم السلم، عالم الجمال والحرية، عالم تسوده العدالة وتصبح فيه حقيقة ملموسة وليس شعارا.

هذه «العفشة»، التي قد ترمز إلى تونس في وجه من وجوهها، بالرغم مما اعتراها من قبح قد يزول بزوال أسبابه وعلاّته تبقى هي الحب الخالد على مرّ الأزمان.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115