منبــر: السياسةُ والتعفُّف: في علاقة مُحيي الدّين القليبي بقليبية

بقلم: مزار بن حسن
خصّص «عبد القادر القليبي» في كتابه الذي وثّق فيه مراحِلَ حياةِ أبيه «محيي الدّين القليبي» فصلا قصيرا بأقلَّ مِن صفحتيْن سمّاهُ: «دور قليبية وأهلِها في حياة محيي الدّين». وقد

اِستهلَّهُ بتحدِيدِ بدايةِ توثّق العلاقاتِ بين محيي الدّين وبلدَتِه الأصليّةِ «قليبية» في أواخر ثلاثينات القرن الماضي، «حيثُ أسَّسَ شُعبةً دُستُوريَّةً جديدةً» وشُعبًا أخرى في بعضِ القُرَى المُجاوِرَةِ، «وكَوَّنَ صداقاتٍ متينةً» مع أهلِ البلدةِ وأعيانِها الذينَ كانَ يزُورُهم في كلِّ صائفةٍ، حتّى أصبحوا يكترونَ لهُ ولعائلتِه محلاّ لقضاءِ فصلِ الصّيفِ فيه. كما أعادَ ربطَ القرابةِ الدّمويّةِ وجَدَّدَ صِلةَ الرَّحِمِ التي تجمعُ بينهُ وبينَ أبناءِ عُمومَتِه الذين بَقُوا في قليبية ولمْ يُهاجِرُوا إلى تُونِسَ مثلما فعَلَ جَدُّهُ. وقد أسّستْ الشّعبةُ بإيعازٍ منه نادِيًا سُمِّيَ «النّادي الأدبيّ». وقد كان «يجمع فيه مرّةً في الأسبوع التّلاميذَ والمعلِّمين وسائِرَ مُثقَّفِي المدينة، يُحدِّثُهم في كلَّ مرَّةٍ عن عَلَمٍ مِنْ أعلامِ الأدبِ العربيِّ أو عن قضيّةٍ مِن قضايا الأدب...»1.

رحلة النّسَب العائليّ:
تقولُ بعضُ المصادِر المكتوبةِ إنَّ المناضلَ الوطنيَّ محيي الدّين القليبي يرجِع نَسَبُه إلى عائلة «بن رمضان» التي كانت موجودةً في قليبية إلى حُدودِ بدايةِ السّتّينات. فهو مُحيي الدّين بن مُحمّد بن عبد القادر بن رمضان الشّريف القليبيّ، نسبة إلى الأشراف (آل البيت النّبويّ)2. وقد انتقلَ جدُّهم الأعلى إلى تونس العاصمة في أواخر القرن الثّامن عشر حسب المؤرّخ حمّادي السّاحليّ الذي لم يذكُرْ مصدَرَه في ذلك3. ويقول المرحوم عبد الرّحمان بن عبد اللّطيف في معرضِ حديثِه عن العائلاتِ والألقاب في قليبية إنّ هذه العائلة هي من بين العائلاتِ العربيّةِ المنقرِضةِ في النّصف الثّاني من القرن العشرين. كما يذكر أيضا أنّ أصلَ العائلةِ يرجِعُ إلى «حمّام سوسة» دونَ أن يرفدَ كلامَه بمرجعٍ واضِحٍ أيضا، ودونَ أن يُشيرَ إلى انتمائها إلى الأشراف4. ثمّ يذكُر شخصيّة «مُحمّد بن أحمد بن رمضان» الذي كان عدلَ إشهاد بقليبية بين سنتَيْ 1834 و1894 (1250 - 1311هـ). وذكرَ أيضا ابنَه العدل «أحمد بن محمّد بن أحمد بن رمضان» الذي خلفَ والِدَه في الإشهاد، وبقيَ شاغِلا للخطّة من سنة 1894 إلى سنة 1912 (1311 - 1330هـ)، ودفاتِرُهما ما زالت محفوظةً في الأرشيف الوطنيّ التّونسيّ5.

ويبدو أنّ آخرَ فرْدٍ مِن أفرادِ هذه العائلة مِن الذّكور في قليبية هو «امحمّد بن رمضان» أو «خالي امحمّد» كما كان يُناديهِ أهل قليبية. وهو نجّارٌ صِناعةً في نهج سيدي أحمد بن حمّودة. وقد تمكّن جارُه الرّسّام «رؤوف قارة» من اِلتقاطِ صورتيْن فوتوغرافيّتيْن له وهو جالِسٌ أمامَ دُكّانِه سنة 1961.

الرّحلة الدّعائيّة السّياسيّة:
بعد عودة الشّيخ «عبد العزيز الثّعالبيّ» من رحلتِه المشرقيّة إلى تونسَ، وبعد الزّيارة التي أدّاها إلى قليبية يومي السّبت والأحد 28 و29 أوت 1937 في إطار رحلته بالوطن القبليّ التي زار فيها أيضا الحمّامات ومنزل بوزلفة وبني خلاد وقربة ومنزل تميم6، نشر «العربي صمّود» رئيس شعبة قليبية مقاليْن بجريدة «الإرادة» لسان اللّجنة التّنفيذيّة للحزب الدّستوريّ القديم بتاريخ 16 و27 سبتمبر 1937 (عدد: 246 - 248) عنوانُ الأوّل: «رحلة دعائيّة ناجحة في الوطن القبليّ» وعنوان الثّاني: «رحلة دعائيّة ناجِحة». يسردُ فيه تقريرا للجولة الدّعائيّة الحزبيّة التي قام بها «محيي الدّين القليبي» في جهة قليبية من أجل «تفقُّد شُعب الحزب القديمة وتأسيس شُعبٍ جديدةٍ» حسب ما أُعلِنَ مِن الأهداف. وقد شملت هذه الرّحلةُ بلدةَ «أزمور» و»سيدي مذكور» أوّلا (السّبت 4 سبتمبر)، ثمّ «صاحب الجبل» (الأحد 5 سبتمبر)، فـ»الهواريّة» (الجمعة 10 سبتمبر) فـ«وادي الخطف» (السّبت 11 سبتمبر).

كان الوفدُ يضُمّ إلى جانب محيي الدّين القليبي مجموعةً من أعيان قليبية وأعضاء شعبتِها الدّستوريّة منهم الشّيخ معاوية بن عليّة وحميدة صمّود والطّاهر النّجّار وعبد الرّحمان تنبان والعربيّ صمّود كاتب المقاليْن. وكانت وسيلةُ النّقل التي يستخدمونها هي «ظهور الدّوابّ». وفي كلِّ بلدةٍ يدخلونها يجدون النّاسَ في انتِظارِهم لعِلمِهم المُسبَّق بمواعيد الاجتماع، ويجدون ما يستحقّونه من كرمِ الضّيافة وحسن الوفادة. إذ يقول العربيّ صمّود متحدِّثا عن استقبال أهل أزمور لهم: «فأوَّلُ ما قصدْنا بلدةُ أزمور، فألفَيْنَا أهلَها في انتِظارِنا صغيرًا وكبيرًا. وكانت على وُجوهِهم علاماتُ البِشرِ. وبعدَ التّسليمِ اخترقَ الجمعُ البلدةَ إلى محلٍّ على غايةٍ من الاتِّساع. وأخذ النّاسُ يتقاطرونَ جماعاتٍ جماعاتٍ حتّى اكتظَّ ذلك المحلُّ بسراةِ القومِ، فكانَ حفلاً بهيجًا يَسُرُّ النّاظِرينَ. وتجاذبنا الحديثَ حول الصّالِح العامِّ، فإذا بهم حقًّا يُمثِّلُونَ الإخلاصَ، وكلُّهُم في اشتِياقٍ إلى الأعمالِ الصَّالِحةِ ومُناصرةِ الدّينِ والوطن. فشرع الأستاذ القليبي يُفيضُ عليهم من بدائِعِ نُصحِه ووعظِهِ وإرشادِه ما اِشرأبَّتْ إليه أعناقُ الجميعِ. ثمّ أتَوْا بجميعِ أنواعِ الأطعمة التي أحضرُوها وأَلَذِّ ما وُجِدَ مِن الغلال...».

وبعد ذلك يبدأ الاجتماعُ ويأخذُ الأستاذ محيي الدّين في الخطبةِ عادَةً قبل غيرِه، ثمّ يتبعُهُ البقيّةُ. ويكونُ مضمونُ الخطاب في الغالِبِ حول مسائل الاتّحادِ والوفاق بين أفراد الأمّة الذين تجمعُهم رابطةُ الدّين أوَّلاً ثمّ الوطن. ولم يَكُن اختيارُ هذه الألفاظ والمصطلحات الوفاقيّة مجانيًّا، بل إنّ الظّرفيّة السّياسيّة التي يمُرُّ بها الحزبُ الدّستوريّ في تلك الفترة، وظهور جماعة الدّيوان السّياسيّ بعد مؤتمر 2 مارس 1934 بقصر هلال وسعيهم إلى الاستقلال عن الحزب القديم وطرحِهم أنفُسَهم بديلا عنه، كلُّ هذه الخلفيّات كانت مُحرِّكًا للخطاب ولنوعيّة الدّعاية السّياسيّة التي يريد الحزب القديمُ ترويجَها بقيادة الثّعالبي والقليبي وأحمد الصّافي وصالح فرحات وغيرهم...

يقول العربيّ صمّود في اجتماع أزمور: «وبعد الفراغِ مِن الأكلِ اِنتظمَ الجَمعُ مِن جديدٍ، واِفتتحَ الاِجتِماعَ الشّيخُ السّيّد عبد الرّحمان تنبان بتلاوة القرآن الكريم. ثمّ ألقَى الأستاذ القليبيّ درسًا شافِيًا كافِيًا على مَسامِع الحاضِرينَ، وأوّلَ ما شرَعَ به العربُ قبْلُ، وكيف تكوَّنت الأُممُ العربيّةُ بعد ما كانت في جهلٍ وتفرُّقٍ، وكيف اِستطاعَ رسولُ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ وصحابَتُه أنْ يُوَحِّدُوا بين قُلوبِهم ويَجعَلُوهُم أُمَّةً واحِدةً على كُلِّ ما يُعْلِي شَأنَ الإسلامِ، إلى غيرِ ذلك من النّصائح الغاليةِ والمواعِظِ. ثمّ قامَ بعدَه العربي صمّود رئيسُ شعبةِ قليبية بخطابٍ بيَّنَ فيه مُبتَدَأَ تاريخِ تأسيسِ الحِزبِ الذي أُسِّسَ بمجهودات الزّعيمِ الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي ومَنْ ناصَرَه في خِدْمَةِ الوطنِ المُفَدَّى. ثُمَّ أتَى على نُبَذٍ مِمَّا طرأَ على القائِمينَ بالحركةِ وما اِعْترَضَهُم مِن العقباتِ وما قاموا به من التّضحياتِ لإسعادِ هذا الوطنِ. وفي سياقِ الحديثِ أتت مسألةُ الشِّقاقِ المُؤسِفة، فلم يَشأ أنْ يأتِيَ على ذِكرِها قائلا إنّها سحابةٌ مُظلِمةٌ خيَّمَتْ على رُؤوسِ التّونسيّين ثمّ انقشعت بعودة الزّعيم الجليل خادم الدّين والوطنِ بحقٍّ الشّيخ سيدي عبد العزيز الثّعالبي الذي هو أب الجميع وقدوةُ الجميع والذي لا يُضاهيه أحدٌ لا مِن حيثُ الغَيْرةُ على الإسلامِ ولا مِن حيثُ معرفةُ دخائلِ أمم الشّرق والغرب...».

أمّا رُدُودُ أفعال الجمهور فكانت حسب كلام الكاتبِ بالتّأييد والهتافِ بحياة الشّيخ، ثمّ بالدّخول مباشرةً في الحزب، ثمّ بالانتخاب وتأسيس الشّعبة أو تعديلِها، بل أكثر من ذلك، وصلت إلى حدِّ تجريم كلّ من يُخالف الرَّأي الذي استقرَّ عليه الجمهور.

يضيف الكاتبُ واصِفًا ما حصلَ بعد انتهاء خطاب أزمور: «وهنا دوّت الأصواتُ بحياةِ الشّيخ المُبجَّل، وهتفت بالاتِّحاد والالتفافِ حوله، وكلُّ مَن خالفَ هذا فهو مُجرِمٌ أثيمٌ. ثمّ تأسّست شُعبةٌ هناك تحت إشرافِ الشّيخ الثّعالبي المحبوب من الجميع وتشكّلت هيئتُها على الصّفة الآتية: الشّيخ عليّة بن عبد اللّه (رئيس) عبد الرّحمان بن ابراهيم (أمين مال) صالح بن المؤدّب (كاتب عام)...».

كما يقول في ختام اجتماع الهواريّة: «ثمّ تكلّم كاتِبُ هذه الحروف، فبيّن للحاضرينَ ما يَجبُ عليهم القيامُ به نحو الحزب. ثمّ ذكر لهمْ أنّ الدّخولَ في الحزبِ ضروريٌّ لكلِّ مُخلِصٍ، ولكنّهُ اختيارِيٌّ. ومَن أرادَ الانخِراطَ في سِلكِه عن طيبِ نفسٍ فما عليهِ إلاّ أن يُنادِيَ بذلك جهارًا. وما إن أتمَّ هذه الكلماتِ حتّى تصاعدتِ الأصواتُ ضجَّةً واحِدَةً: نُريدُ الدُّخول، نُريدُ العملَ مع العامِلين، نُريد نُصرةَ الدّينِ والوطن إلى النّهاية. وبعد ذلك تشكّلت هيئةُ الشّعبةِ طبقَ الانتخابِ، وانخرط في سِلكِ الدُّستُورِ عددٌ كبيرٌ من الأحرار، وهذه أسماء أعضاء هيئة شعبة الهواريّة المباركة: السّادة: محمّد بن صالح بن ابراهيم (رئيس) محمّد بن الحاج أحمد بن سالم (أمين مال) الحاج حسين الحشايشي (كاتب عام)...».

ما نلاحظُه من خلال حملة محيي الدّين القليبي وأنصارِه في الجهة أنّها استثنتْ ثلاثةَ مراكزَ أساسيَّةً في الجهة. وهي: منزل تميم وحمّام الأغزاز والشّرف. هذه المراكز الثّلاثة هي أهمُّ معاقلِ البورقيبيّة في الجهة. وقد ردّت البورقيبيّة بقوّة على هذه الحملة التي قادَها محيي الدّين من خلال واجِهتيْن: واجهة سياسيّة رسميّة وواجهة ميدانيّة غير رسميّة.

الواجهة الرّسميّة: هي الزّيارة التي قام بها الحبيب بورقيبة إلى الوطن القبليّ بعد أشهرٍ قليلة مِن حملةِ القليبي، وتحديدًا يوميْ 3 و4 مارس 1938، في إطار الاحتفال بالذّكرى الرّابعة لمؤتمر قصر هلال. وقد زار أثناءها بعض الشّعب المُسانِدة له مثل قربة ومنزل تميم، كما قام بتأسيس شُعبٍ جديدة تدينُ له بالولاء مثل شعبة حمّام الأغزاز (الخميس 3 مارس 1938) وشعبة المعمورة (الجمعة 4 مارس 1938)7. بل إنّه افتكَّ بعضا من الشّعب التي أسّسها أو تفقّدها محيي الدّين وجماعتُه هناك.

الواجهة غير الرّسميّة: على خلافِ فكرةِ القبول الجماهيريّ الذي حاولَ العربيّ صمّود نقلَها إلى القارِئِ في مقالَيْهِ بكثيرٍ من الوصفِ الرّومنسيّ، فإنّ الرّوايات الشّفويّة التي نقلتْ إلينا بعضَ أحداثِ حملةِ القليبي وأجوائِها تُصِرُّ على أنّ هناك مجموعاتٍ من أنصارِ الشّقّ البورقيبيّ عمدت إلى التّشويش على هذه الحملةِ ومضايقةِ أصحابِها. وقد وصلت هذه المضايقات إلى حدِّ استخدامِ العنف اللّفظيّ والمادّيّ. هذه الأحداثُ المُوازية لا يُمكِنُ أن تكونَ عفويّةً، بل تدخُلُ في إطارِ الصِّراعِ بين شِقّ البورقيبيّين وشِقّ «الغرانطة» الثّعالبيّين الذي احتدَمَ في شهر سبتمبر 1937 وخاصّةً خلال أحداث السّاحل وأحداث ماطر8. لكنَّ كاتبَ المقاليْن لم يُشِرْ إليها لأغراض دعائيّةٍ. فكُلُّ شيءٍ على ما يُرَامُ.

هكذا شاءتِ الأقدارُ أنْ تنقلِبَ الأوضاعُ وتنتصِرَ البورقيبيّةُ في الأخيرِ على ما أرادَ مُحيي الدّين القليبي إنجازَهُ. وانحصرَتْ الحركة «الغرنوطيّة» هناك في حدودِ قليبية المدينة، بعد أن اكتسَحتْ شُعبُ الحزب الدّستوريّ الجديد حتّى المناطقَ التي زارَها محيي الدّين في رحلتِه الدِّعائيّةِ وركَّزَ فيها شُعَبَهُ. فالبذرُ الذي بَذَرَهُ حَصَدَهُ غيْرُه. والبناءُ الذي شيَّدَهُ جاءَ بعدَه من سكَنَ فيه.

رحلة البحر ورحلة البرّ:
يقول عبد القادر القليبي في كتابِه المذكور مُتحدِّثًا عن وُلوعِ محيي الدّين القليبيّ بصيد السّمك: «ووضعَ المرحوم الحاج عبد الرّحمان الغربي تحتَ تَصَرُّفِه قارِبًا يخرُج فيه صباحًا غيرَ بعيدٍ عن السّاحِلِ، فيقضي نحو السّاعتَيْنِ أو الثّلاث فيصيدُ ما أمكنَ مِنَ السَّمكِ يرجِعُ به إلى المنزل. فإنْ كانَ فيها ما هو جديرٌ أنْ يُهدَى أهداهُ، وإنْ لم يَكُنْ طبختْهُ الوالِدةُ. فكانَ ألذَّ سمَكٍ أكلناهُ. وفي سِنِّنا الباكِرِ لم يَكُنْ يَأخُذُنا معهُ، لكنْ لمّا كبُرنا صارَ يصطحِبُنا. وتعلّمنا الصّيدَ وأحببناهُ كما أحبَّهُ. وأدركنا أنّه كان إلى جانِبِ مُتعةِ الاحتِيالِ والمراوغاتِ من طرفِه ومن طرفِ الأسماك، كان الصّيدُ بالنّسبة إليه استراحةً وحِصَّةَ إعدادٍ لبرنامجِ العشيِّ، عندما سيذهب بعد القيلولةِ إلى المدينةِ ويجلس إلى أصدِقائِه أمام مكتب المناضل المرحوم الحاج عبد الرّحمان الغربيّ، فيتحدّثون في كلِّ ما هو مطروحٌ في السّاحة مِن شؤونِ المدينةِ والبلاد».9

أثناء الحرب العالميّة الثّانية، انقطعت زياراتُ محيي الدّين إلى قليبية كما يقول عبد القادر في كتابِه. ثمّ رجعت بعد أن وضعت الحربُ أوزارَها. وانطلقت رحلتُه الفلاحيّة. يقول الكاتب: «وإذّاك أوعزَ أصدقاءُ الوالِدِ له ببعثِ مشروعِ مُغارسة يُمكِّنه من تطويرِ مورِد رزقٍ. فاستحسنَ الفكرةَ، ووقع اختيارُهم عل أرضٍ تقع بين قليبية والهواريّة، بمنطقةٍ تُسمَّى «دندرة». فأمضى عَقدَ المغارسة مع صاحبِ الأرض وشرع في تعميرِها. فبنَى بيتًا للعامِلِ الذي انتدَبهُ، وشرع يزرعُ الأشجارَ بإعانةِ المرحومين: الحاج عبد الرّحمان الغربي والحاج العربي صمود ومعاوية بن عليّة والحاج محمّد بن عليّ الغربيّ. واستمرَّ يفلَحُ تلك الأرضَ إلى أن جاء موعدُ رحلتِه الأولى إلى الشّرق، فسافرَ ولم يُتمِّمْ تشجيرَ الأرضِ كما نصَّ عليه عقدُ المغارسة. ورفع صاحبُ الأرضِ قضيَّةً ضدَّه وربِحَها. واسترجعَ الأرضَ دون أن يدفَعَ أيَّ تعويضٍ للوالِدِ. وهكذا تضيعُ منهُ مرَّةً ثالثةً (دكّان سوق اللّفّة- ضيعة المرسى- ومغارسة دندرة) فرصةُ تأسيسِ مورِدِ رزقٍ قارٍّ لانشغالِهِ بقضيّةِ بلادِه»10.

يقول الأستاذ الشّاذليّ القليبيّ في مقال له صدر مؤخَّرا بمجلّة «ليدرز» العربيّة (أفريل 2017) متحدّثًا عن مُحيي الدّين (وهو زوجُ عمّتِه):
«وقال لي من يعرِفه حميمَ المعرفة، وهو عمّي إبراهيم شقيقُ زوجتِه، إنّه لا يسأل حاجَتَه إلى أحدٍ، ولا يرُدُّ سائلَه خائبًا مهما كان الحالُ. وروى لي عن ذلك قصصا عجيبةً تشهد له بذلك. كان يجمع بين الاِعتدادِ بالنّفس في مواجهةِ خصومِه في السّياسة، وبين فرط التّواضع إلى مَن سواهم. لم يكن له رزقٌ ثابتٌ غيرَ ما يُنفق عليه والِدُه، لكنّه من الذين «يحسَبُهم الجاهلُ أغنياءَ مِن التّعفّف» (البقرة: 273). حتّى لمّا تفرّغ لإدارة الحزب، فإنّه لم يكن يعتقد أنّ عملَه ذاك يستحقّ عليه الأجرَ. ولم يُفكّر أحدٌ من زملائه في ذلك. وكان مع كثرةِ شواغله دوما في قضاء حاجاتِ النّاس، سريعَ العَطاءِ رغم قلّةِ ذات اليد».

هذا هو محيي الدّين القليبيّ باختصارٍ شديدٍ: رجُلٌ وطنيٌّ مُتعفِّفٌ زاهِدٌ في ملذّاتِ الدّنيا، لكنّ يدَهُ مبسوطةٌ لكلِّ النّاسِ. يصطادُ حتّى إذا غنِمَ لا يستنكفُ أنْ يرَى غيرَهُ يطعَمُ من مصيدِه. يغرِسُ الشّجرَ حتّى إذا اِستوى واِشتدَّ وأثمرَ لا يُبالي وإن جنَى غيرُهُ ثمرَهُ. يُمارِسُ السِّياسةَ، فإذا اِستمكنَ من السّلطةِ تنازَلَ عنها عن طيبِ خاطِرٍ لِيسُوسَ الآخرونَ.

ذلك هو درسُ السّياسةِ الذي نستخلصهُ من سيرةِ مُحيي الدّين: أن تكون سياسيًّا عظيمًا حقًّا يجب عليك أن تغشَى وَغاهَا دون خشيةٍ، وأن تعِفَّ عندَما تفوزُ بمغانِمها. تلك هي البطولة الحقيقيّة التي عبّر عنها عنترةُ بنُ شدّادٍ منذ مئاتِ السّنين:

يُخبِرْكِ مَنْ شَهِدَ الوقيعَةَ أنَّني
أغشى الوَغَى وأعِفُّ عند المغنَمِ.
----------
1 - محيي الدّين القليبي أو جهاد ثلث قرن، مجموعة وثائق انتقاها وأعدَّها للنّشر عبد القادر القليبيّ مع تمهيد بقلم الأستاذ الشّاذليّ القليبيّ، تونس 2004، دار سراس للنّشر، ص 227.
2 - صالح بن عبد الجليل، مُحيي الدّين القليبيّ في الذّكرى الثّانية والخمسين لوفاتِه، مقال بجريدة «الشّعب» بتاريخ 11 نوفمبر 2006.
3 - حمّادي السّاحليّ، مقال «محيي الدّين القليبي» في دائرة المعارف التّونسيّة، تونس 1992، كرّاس 3، ص 38.
4 - عبد الرّحمان بن عبد اللّطيف، صفحات من تاريخ مدينة قليبية على مرّ العصور إلى الاستقلال، تونس 1983، اللّجنة الثّقافيّة المحلّيّة بقليبية، ص 64.
5 - المصدر نفسُه، ص 83 و85. والأرشيف الوطنيّ التّونسيّ، دفاتر العدليْن (الأب وابنه)، ترحيل منزل تميم، (120/2008)، الدّفاتر: (4444) (4406) (4473) (4467) (4604) (4603) (4485) (4440) (4366).
6 - انظر جريدة الإرادة: العددان: 243- 244: 2 و9 سبتمبر 1937. وانظر كذلك كتاب «الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي والحركةالوطنيّة (1892- 1940) تأليف أحمد بن ميلاد ومحمّد مسعود ادريس، تونس 1991، بيت الحكمة، ج1، ص 408، 409.
7 - جريدة العمل : 17 مارس 1938.
8 - أحمد بن ميلاد ومحمّد مسعود ادريس، المصدر السّابق، ج1، ص 412.
9 - عبد القادر القليبيّ، المصدر نفسُه، ص 227- 228.
10 - المصدر نفسُه، ص 228.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115